مصر والأزمات الإقليمية    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية: دمج جميع القوات الأخرى لبناء جيش وطني قومي مهني واحد اساسه القوات المسلحة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    أسطورة فرنسا: مبابي سينتقل للدوري السعودي!    ياسيادة الفريق اول البرهان شيل هؤلاء قبل أن يشيلك الطوفان ويشيلنا ويشيل البلد كلها    عقار يلتقي مدير عام وحدة مكافحة العنف ضد المرأة    الداخلية السعودية تبدأ تطبيق عقوبة "الحج دون تصريح" اعتبارًا من 2 يونيو 2024    دورتموند يصعق باريس ويتأهل لنهائي دوري أبطال أوروبا    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    شاهد بالفيديو.. البرهان يصل من تركيا ويتلقى التعازي في وفاة ابنه    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإنقاذ كانت تجربة ضرورية هي ليست سلطة دينية، وإنما فكرة مادية 02
نشر في سودان موشن يوم 18 - 03 - 2011

يعني في لسان العرب، مكان الحفظ ، أو مكان الولد من البطن، أي الرحم، وهذا المعنى اللغوي هو معنى طيب، في غاية الطيبة، لأنه يستقيم مع العرفاني والذي يعني الدماغ،
فالدماغ البشري مثل المخزن أو المستودع... وهو مستودع دائب الحركة بإدخال المعلومات فيه، وإخراجها بالتذكر وبالنسيان... بهذا المعنى فإن المستودع يعني الوعي البشري، الذي هو وعاء الذاكرة... الذاكرة هي النفس البشرية، التي يكتسبها أحدنا بين الميلاد والموت.
الدماغ البشري هو مستودع المعلومات والذكريات، الموروث منها والمكتسب، وهو دماغ واحد، ولكن لكل واحد منا نسخة منه، فيها ماهو مستقر تحدثنا عنه قبل قليل، وفيها ماهو متحرك عبر عنه القرآن أبلغ تعبير بتسميته " مستودع" : " وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمستقر ومستودع"... هذه النفس الواحدة ، هي الدماغ البشري، الذي خلقت منه ثنائيتنا التي إنبثقت في كل نفس بشرية، كما هو واضح من قوله: " يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا"
الأرحام ، إشارة إلى المستودع، والذي قلنا إنه يعني في لسان العرب الرحم، ولعل القراء الكرام، قد لاحظوا ورود كلمة التقوى مرتين في هذه الآية ، لأن التقوى تشير في المرة الأولى إلى تطهير المستودع، وفي المرة الثانية إلى البقاء في المستقر، بالرقابة المستمرة للمستودع، والمشار إليها بقوله: " إن الله كان عليكم رقيبا"... ولكن مماذا نطهر المستودع؟؟
في مستودع الدماغ البشري، يكمن ويظهر صراع الأضداد بين الأمر الواقع وبين تصوراتنا لما هو خير ولما هو شر، ولما هو حق ولما هو باطل، إلى آخر تلك القائمة الطويلة من صراع المتناقضات... هذا الصراع المرير هو الذي قطع النفس البشرية أيدي سبا، وجعلها في حلة تناقض... ذلك التناقض هو سبب الجريمة بين الأفراد ، وهو سبب الحروب بين الأمم.
النزاع الخارجي هو مجرد مظهر، سببه النزاع الداخلي في مستودع الدماغ البشري... وما لم يهدأ هذا الصراع فسوف يستمر القلق والإضطراب عند الأفراد، وسوف تستمر الحروب بين الجماعات... ولذلك فإن اوجب واجبات كل واحد منا، تطهير مستودعه ... تطهير المستودع هو الثورة الفكرية.
إذا فهمنا هذا فهما جيدا، فقد إلتقى الفكر بالواقع ، وقد إنتصرت الثورة الفكرية، لأن الثورة الفكرية هي إرادة الله التي لا تقهر: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ، أهل البيت ويطهركم ، تطهيرا" أهل البيت ، هم اهل البيت المعمور، وأصحاب الكتاب المسطور،أصحاب المكانة العلية، المعبر عنها ب " المستقر" بصرف النظر عن جنسهم، او لونهم ، أو عنصرهم أو زمانهم .
هؤلاء العارفون، هم أيضا المشار إليهم بقول الله على لسان النبي: " قل ياقومي إعملوا على مكانتكم ، إني عامل فسوف تعلمون" أي إعملوا على مكانتكم التي أنتم فيها الآن، وسوف أعمل أنا على مكانتي التي أنا فيها الآن، لأن تلك هي إرادة الله، وسوف تعلمون أن الله قد أقام العباد فيما أراد، وسوف تعلمون أن الله لم يرد بعباده شرا.
إقرأ ببطء: " كلا سوف تعلمون* ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين " هذا هو علم اليقين الذي يتمادى لحق اليقين، في حق أهل القرآن الذين سبحوا مع نبيهم بحمد ربهم العظيم: " وإنه لحق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم".
هذا العلم اليقيني المحقق هو الذي يقود للحرية التامة والتخيير الكامل... هذا العلم هو وقود الثورة الفكرية التي تقود إلى التحرر من عبادة الأشخاص، والإفتتان بالذوات البشرية الفانية.... هذا العلم هو الذي يجعلك أنت أنت في مكانتك، ويجعلني أنا أنا في مكانتي، ويجعل محمدا محمدا في مكانته: إقرأ هذا العلم اليقيني المحقق، الذي أجراه الله العظيم على لسان نبيه الكريم : " قل ياقومي اعملوا على مكانتكم ، إني عامل وسوف تعلمون"
وقد ذكرت كلمة " مكانتكم " في القرآن أربع مرات مرتين في سورة هود ، ومرة في سورة الأنعام، ومرة في سورة الزمر، لما للرقم أربعة من قيمة روحية، تستوفي البعد الرابع، ثم تغيب في أنوار الذات الإلهية.
فلكل آية في القرآن معنى ظاهر في الآفاق، ومعنى باطن في النفس البشرية، ومعنى ثالث يطالعك في أول التجليات فيما وراء المادة حيث بيان الحق، ومعنى رابع منشور في حدود الله، في جنة شهوده: " سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق، او لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد"
إستمرار الصراع في المستودع، هو أعدى أعدائنا ، والأعداء الخارجيون مجرد أوهام،وهذا هو معنى قول النبي المعصوم: " إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك"، ولن يهدأ الصراع في المستودع، إلا بإصلاح بالنا، وإصلاح بالنا هو التعريف الصحيح للجنة كما هو وارد في قوله: :" سيهديهم ويصلح بالهم* ويدخلهم الجنة عرفها لهم" ولذلك فإنه عليك هداية نفسك، وعلي هداية نفسي، وعلى كل آخر هداية نفسه، ولاتوجد في الإسلام وصاية من احد على أحد، ولا يوجد أحد يقرر لك إيمانك أو ردتك عن الإيمان: " يا أيها الذين آمنوا، عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا إهتديتم"
ومهما عظم الصراع في مستودع الوعي الإنساني، فإن المستقر يظل هادئا ساكنا ممتلأ ، لا يتأثر بإضطراب أنباء الزمان، مهما كذب الناس ومهما اتبعوا أهواءهم، وهذ هو معنى قوله: " وكذبوا واتبعوا أهواءهم، وكل أمر مستقر" ... شمس الحقيقة تجري في اللحظة الحاضرة حتى تستقر في قلب كل إنسان :" والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم" وشمس الشريعة ، تجري في فلكها لا تستقر أبدا، حتى تزول يوم ينتهي أجلها ، وهذا هو السر في أنه عليه السلام قد قرأ، في رواية أخرى : " والشمس تجري لا مستقرلها ذلك تقدير العزيز العليم" وقد كان إبن عباس يقرأ بالرواية الثانية،: " والشمس تجري لا مستقر لها" لأنه كان يعلم طرفا من التأويل، بفضل دعاء النبي الكريم له: " اللهم فقهه في الدين وعلمه من التأويل"
المستقر هو الوعي الإلهي، الذي تستقر فيه كل أنباء الزمان، فإذا علمت ذلك، فقد وقعت الثورة الفكرية في مستودعك، وإذا لم تعلم ذلك، فقطعا سوف تعلم ذلك:
فلا تعجل على ما لست تدري، فإنك سوف تدري بالتأني
إقرأ ثم أقرأ قول الله: " لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون"
وقد ذكرت كلمة مستودع في آية أخرى على النحو التالي: " ويعلم مستقرها ومستودعها ، كل في كتاب مبين" ... ولا يخفى على أولي الألباب البشارة العظيمة المطوية في قوله: " كل في كتاب مبين" إذ أنها تشير إلى أن القرآن العظيم ، قد شمل علوم المستقر، وعلوم المستودع، أعني علوم الوعي الإلهي، وعلوم الوعي البشري
من هنا كان أهتمامنا بتأويل القرآن الكريم، لأن هذا الكتاب العزيز، هو كتاب الثورة الفكرية، ومن هنا كان الإنسان هو موضوع الثورة الفكرية، لأن في قلب الإنسان علوم المستقر: " ما وسعني أرضي ولا سمائي ، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن" وفي عقل الإنسان علوم المستودع التي تزيد في كل لحظة: " وقل رب زدني علما".
ومن هنا أيضا، فإن كل إنسان مطلق إنسان، هو بذرة الإمام المبين : " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين" ... ولذلك، فإن الأمل في الإنسان ... الإنسان ذلك الكائن المقدس ، الذي بظهوره في الهيكل البشري ، فقد إستقر روح الله في الأرض : " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين"
مستقر، إشارة إلى روح الله المنفوخ فينا، ومتاع إشارة إلى المستودع ، المخزون في العقل البشري... فإذا تم تطهير مستودع العقل البشري من صراع المتناقضات، يصير المستودع وديعا ساكنا صامتا، نقيا، خاليا من الإضطراب.
بهذا الصفاء ، وبهذا النقاء، يلاقي المستقر المستودع... يلاقي الروح التسوية... يلاقي الله الإنسان، وهذا هو المعنى الحقيقي للثورة الفكرية:
طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله.
طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض.
طوبى للمساكين بالروح، لأنهم يرثون ملكوت السماوات
هذه هي الثورة الفكرية، الموجودة في قلب كل إنسان، ولكننا زعمنا أن بذرتها موجودة في ضميرالأغلبية الصامتة في السودان، فعلى أي أساس نزعم هذا الزعم، وعلي اي أساس نقول هذا القول؟
الحديث عن الثورة الفكرية فنونه كثيرة في تنوع الذكر واشراق الفكر
لأنها ثورة داخلية تنبع من الأعماق وتنتشر في الآفاق
دون مواكب أو مظاهرات، فهي سلام حتى مطلع الفجر
لقد كانت الثورات في الماضي تتفجر من المستودع، حيث القلق والإضطراب والتناقضات التي يرزح تحتها العقل البشري، ولذلك فقد كانت كلها ثورات مسلحة، وتعبيرا دمويا عن التنازع الداخلي في العقل البشري، ولا يستثنى من هذا أي من الثورات القديمة، ومعلوم أن الثورات تأكل بنيها ، بما فيها ثورة الإنقاذ التي أكلت أباها ذاته.
جميع ثورات المستودع ثورات عنيفة، كماحدث في أمريكا وفي فرنسا، ولكن عنف ثورة المستودع ينطبق أكثر، على الثورات الدينية السطحية، كما حدث في إيران، داخل بلادها، وخارجه في محاولاتها العديدة في نشر الثورة الشيعية بواسطة أتباعها في العراق وفي لبنان وفي البحرين، بل أن الثورة المصرية الحاضرة السلمية، لم تسلم من غوائل العنف، حيث سقط فيها ما يربو على الثلاثمائة قتيلا.
الثورة الفكرية ، وحدها هي الثورة السلمية ، لأنها تنبع من المستقر، حيث الأمن والطمأنينة والسلام، وسوف تجئ الثورة الفكرية بدون مواكب وبدون مظاهرات، لانها تعبير عن العلم والذكر والفكر وسلام هي حتى مطلع الفجر.
لعل القراء الكرام قد لاحظوا، اننا قد أيدنا ودعمنا ضرورة قيام الثورة الفكرية، بالعديد من آيات القرآن الكريم ، وسبب ذلك أن الثورة الفكرية، تقع في داخل النفس البشرية، حيث الروح ، وحيث المستقر، وحيث وحدة الفاعل، وقد كان في الإمكان الإستطراد وإيراد المزيد من الآيات، لو لاخشية التطويل.
القرآن ميسر للذكر : " ولقد يسرنا القرآن للذكر ، فهل من مدكر" وبالذكر تكون طمأنينة القلوب: " الا بذكر الله تطمئن القلوب" إي أن الذكر يقود إلى المستقر الداخلي، حيث الطمأنينة والسكون... بدوام الذكر يذكرنا الله : " فاذكروني أذكركم"... بذكر الله لنا نكون في صلة مع العقل الكلي القديم... بفضل هذه الصلة يستقيم فكرنا، وهذا هو السر في أن الله قد ربط بين الفكر والذكر، لأن الفكر هو الثمرة المباشرة للذكر: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون"
" ولعلهم يتفكرون" هو إكسير الثورة الفكرية المتصلة بالله الفاعل الوحيد في هذا الوجود... لقد وكد القرآن، توكيدا قاطعا، وحدة الفاعل، وهاهو الاستاذ محمود محمد طه يقول: " فإذا إستقرت مدركات العقول في طوايا الصدور، ظهر أن ليس هناك حرف واحد في القرآن لا يدعو إلى وحدة الفاعل"
إستقرار مدركات العقول في طوايا الصدور، هو لقاء المستودع " مدركات العقول" بروح الله المنفوخ فينا" المستقر"... هذا اللقاء هو هو الثورة الفكرية، التي أشرنا إليها أعلاه... وقد إشار الأستاذ محمود إشارة بليغة إلى المستقر بقوله: " إذا إستقرت " ، ولاغرو في ذلك، فإن الأستاذ محمود هو رائد الدعوة للثورة الفكرية، في السودان ومن ثم في العالم، وهي عنده تغيير لم يسبق له مثيل ، منذ بدء النشأة البشرية، كما أورد ذلك بصريح العبارة، في بعض كتاباته.
بذرة الثورة الفكرية موجودة في ضمير الأغلبية الصامتة في السودان
هناك شواهد كثيرة، يؤخذ منها وجود بذرة الثورة الفكرية في ضمير الأغلبية الصامتة في السودان، منها دخول الإسلام في السودان عن طريق التصوف الإسلامي، ومنها ظهور بعض كبار الأولياء والصالحين ذوي القلوب السليمة، والمفكرين ذوي العقول الصافية، في أرض السودان، في فترات مختلفات.
في هذه العجالة، فإني سوف أقول قولا ميسورا، في دخول الإسلام في السودان عن طريق التصوف الإسلامي، ثم أقوم بإيراد نموذج لأحد كبار الأولياء والصالحين، الذين بذروا بذرة الثورة الفكرية في السودان، وهو الأستاذ الجليل محمود محمد طه، وسوف أشفع ذلك، بنموذج آخر للمفكرين ذوي العقول الصافية، هو الشاعر المجيد التجاني يوسف بشير.
التصوف الإسلامي
مع أن أقطاب التصوف وكبار أساتذته من أمثال الجنيد والجيلي والبدوي والشاذلي والدسوقي ومحي الدين بن عربي والنابلسي وإبن الفارض والبسطامي وإبراهيم بن أدهم والحلاج والرومي والغزالي والسهروردي لم يكونوا من أهل السودان، إلا أن التصوف الإسلامي قد طبع الكثير من أهل السودان بصورة متفاوتة، بطابع مستديم من الرضا بالله، والتوكل عليه، والشجاعة والكرم والمروءة والشهامة، مع اللطف ولين العريكة والتطلع إلى العالم الأسنى في شوق وأمل في الله سمح.
وتعليل ذلك ، يرجع بعد فضل الله ، إلى أن الإسلام لم يدخل السودان عن طريق السيف، وقد حاول عبدالله إبن أبي السرح، في عهد الخليفة عثمان، ايام ولاية عمرو بن العاص على مصر، إدخال الإسلام في السودان عن طريق السيف، إلا أنه أخفق وفشل، ولم يدخل الإسلام في السودان، إلا بعد ذلك بقرون عديدة، وبواسطة أساتذة أجلاء من شيوخ الطرف الصوفية.
لقد كان اولئك النفر من الأساتذة الأجلاء، رحماء طيبين، بسطاء زاهدين، أدخلوا الإسلام في القلوب، بالحكمة والموعظة الحسنة، والقدوة والنموذج، مع مراعاة تامة للتقاليد الإفريقية، في الغناء والطرب ودق الطبول، دون حاجة لسيف، ودون حاجة لإكراه، كما جرى في البلاد الأخرى ألتي دخلها الإسلام بالسيف وبالفتوحات المعروفة والشهيرة في التاريخ.
لهذا السبب فإن للإسلام الشعبي الصوفي السوداني نكهة وطعما ومذاقا وأريجا ، لا تجده في البلاد الإسلامية الأخرى، التي لها طابعها الخاص المتعلق بخلفيتها التاريخية والثقافية، والطريقة التي دخل بها الإسلام في بلادها.
بالإضافة إلى هذا التميز الواضح، فقد حبا الله السودان، بحشد هائل من أساتذة التصوف ، الذين جعلوا حياتهم وقفا لتعريف خلق الله بالله، وتحبيب الله لخلقه في بساطة ولطف، مع جهودهم المقدرة في تدريس وتعليم الكتاب الكريم.
إن المتأمل في تاريخ التصوف في السودان، لابد أن تتملكه الدهشة، من هذا الحشد الهائل من الأساتذة ، كما وكيفا، وكيف كانوا منارة هدي في شمال ووسط وشرق السودان وغربه .
سوف تجد الطريقة القادرية في قرية أبي حراز، حيث يرقد في سكون وطمأنينة ، في قبابها الباهرة، شيوخ السادة العركيين، في حشد هائل من الأولياء، أشهرهم الشيخ دفع الله ابوإدريس الملقب بالمصوبن، والشيخ يوسف بن محمد الطريفي الملقب ب "ابوشرا" والشيخ محمد يونس الملقب بالاستاذ ... بالإضافة إلى شيوخ العركيين المنتشرين في كل بقاع السودان وأصقاعه النائية في النهود والكرمك، ولعل معظم الناس بالسودان، يعرفون ضريح الشيخ حمد النيل إبن الشيخ أحمد الريح، بمدينة أمدرمان، والذي هو من أشهر مراكز الذكر في السودان.... هذا فضلا عن الأعداد الكبيرة من الزهاد السائحين من الاولياء في جميع بقاع السودان، من العركيين ، ومن غيرهم من أبناء البيوتات الدينية، او الأفراد الأفذاذ الذين لا ينتمون لطريقة معينة.
وسوف تجد سجادات الطريقة القادرية منتشرة في السودان بصورة مذهلة، ففي المندرة والسوكي والهلالية تجد السادة الصادقاب، وأشهر شيوخهم الشيخ الجنيد والشيخ محمد ود عبد الصادق والشيخ علي المرين، وفي مدينة ود مدني تجد ود مدني السني الذي أخذت المدينة الشهيرة إسمها من إسمه، وبقرية العليفون تجد الشيخ إدريس ودالأرباب وذريته من الصالحين، وفي ود حسونة ، تجد الشيخ حسن ود حسونة، وفي أم ضبان تجد الشيخ العبيد ود بدر وذريته المباركة وتلاميذه الميامين المنتشرين خارج أم ضبان مثل الشيخ عبد القادر ودأبكساوي ، وفي كدباس تجد الشيخ الجعلي وذريته من الصالحين ، وفي جزيرة ترج تجد أولاد جابر الأربعة الذين طبقت شهرتهم الآفاق، وفي قرية مورة وما جاورها تجد السادة الركابية، واشهر شيوخهم الشيخ عيسى ودبليل وحبيب نسي، والشيخ صالح فضل الركابي... ومن سجادات القادرية الشهيرة سجاد ة السادة المكاشفية في الشكينبة وعلى رأسها الشيخ عبد الباقي المكاشفي المشهور .
وفي قرية الكباشي تجد الشيخ إبراهيم الكباشي وذريته، وفي مناطق كبوشية وشندي تجد الكثير من الأولياء، أشهرهم الشيخ عمر وإبنه الشيخ حامد أب عصا في جبل أم علي.
وتنتشر الطرق الصوفية في مناطق كثيرة من كردفان، حيث يوجد السادة الدواليب ببارا، بالإضافة إلى وجود الطريقة الإسماعلية بالأبيض، وينتشر ابناء مؤسس الطريقة السيد إسماعيل الولي من الأولياء والصالحين في مناطق كثيرة من السودان، كما أن وجود الطريقتين القادرية والسمانية بكردفان، ظاهر وواضح، حيث ينتشر كثير من أوليائهما، وقد كان لذلك آثارحميدة وبركات كثيرة.
وسوف يجد المرء سجادات الطريقة السمانية منتشرة في السودان ، واشهر سجاداتها سجادة السادة الطيبية، في أمرحي وأمدرمان، وطابت ، واشهر شيوخها مؤسسها في السودان الشيخ الطيب ود البشير والشيخ قريب الله والشيخ عبدالمحمود نورالدائم، والاستاذ محمد شريف.... كذلك تجد من شيوخ السمانية، سجادة السادة اليعقوباب، في جهات سنار في العمارة الشيخ هجو، والسبيل وديم المشايخة، وأشهر شيوخهم الشيخ موسى ابوقصة والشيخ هجو ابوقرون ... وفي جهات كركوج يوجد الشيخ بلة الشيخ النور وذرية الصالحين من آل نورالله من وكذلك الشريف الخاتم، وبجهة الصابونابي ، يوجد الشيخ الصابونابي، وذريته من الصالحين.
ومن الطرق التي دخلت السودان حديثا في القرن التاسع عشر وانتشرت إنتشارا واسعا، الطريقة الختمية، واِشهر أوليائها اليسد الحسن الميرغني إبن مؤسس الطريقة، والذي طارت شهرته في الآفاق ، وضريحه الميمون مشهور ومزار في مدينة كسلا، وينتشر خلفاء السادة المراغنة، في الخرطوم بحري وفي سنكات وسواكن وشرق وشمال السودان .
وتزدحم منطقة مروي وكريمة والدبة ودنقلا العجوز ودويم ود حاج بطائفة من الأولياء، حيث ينتشر القرآن الكريم، منذ زمان بعيد، ويرقد بالكاسنجر بالقرب من كريمة، ضريح ود حاج الماحي، المادح المعروف، والذي له قصيدة إستغاثة شهيرة، ذكر فيها كثير من أسماء اولياء االسودان المشهورين بصلاحهم.
ومن الطرق التي دخلت السودان حديثا بعيد الطريق الختمية الطريقة الإدريسية وهي منتشرة في شمال السودان، وكثير من بقاع السودان الأخرى، ويكفي أن ضريح السيد عبد المتعال إبن السيد أحمد إبن إدريس الفاسي المغربي، مشهور ومزار بمدينة دنقلا، والسيد أحمد بن إدريس هو استاذ السيد محمد عثمان الأكبر، مؤسس الطريقة الختمية.
وكذلك الطريقة الهندية في الخرطوم ومنطقة الجزيرة، والطريقة البرهانية في الخرطوم وسائر بقاع السودان، كما ان الطريقة التجانية موجودة وراسخة في غرب السودان حيث ينتشر تحفيظ القرآن الكريم بكثرة، بل إن الكثير من طلبة القرآن، في أوسط السودان ، يجيئونمن غرب السودان، فتزدحم بهم خلاوي القرآن.
وتزدحم بلاد السودان، بكثير من المشايخ الذين إشتهروا بالحكمة وضرب الأمثال مثل الشيخ فرح ود تكتكوك، والشيخ العبيد ود بدر، ويوجد أيضا بالسودان كثير من صالحات النساء مثل هدا الغرا ومريم المرغنية.
ومن أحدث وأشهر الطرق التي نشأت حديثا في داخل السودان الطريقة العجيمية في مناطق جلاس والبصرة وبربر، والتي أسسها العارف بالله الأستاذ محمد علي العجيمي، وهي طريقة لطيفة نشرت دقائق المعارف والفيوضات الربانية، المتعلقة بوحدة الوجود ووحدة الفاعل ، والتحرر الإنساني، وخاصة حرية المرأة .
ولم نذكر الكثير من الأولياء الصالحين من الرجال والنساء، نسبة لصلتهم الوثيقة بمن ذكرنا من أولياء بالبنوة المعنوية، ونسبة لضيق المجال أيضا ... فلهم منا العتبى، حتى يرضوا، ولنا لهم عودة بإذن الله... وتجدر الإشارة إلى أن بعض الصالحين من أهل السودان، قد آثروا إخفاء ولايتهم فلم يشتهروا، ولم يعرفوا، إلا عند القلة من أهل البصائر.
كل هذا العمل العرفاني الممجد، وكل هذا الحشد من الأولياء، الذين يطلق عليهم أهل السودان لقب " الصالحين" تيمنا وتبركا ،مصداقا لقوله تعالى: " ولقد كتبنا في الزبور،من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" هو الذي وضع بذرة الثورة الفكرية في السودان، ورسخ اقدامها.
ويطيب لي في هذا المقام، أن أشير إلى أنه عليه السلام قد قال في تأويل قوله تعالى " ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين" الحديث الغريب: " مني وإلى آدم ثلة، ومني إلى قيام الساعة ثلة ولن تستكمل ثلتنا إلا إذا ستعنا عليها برعاة الإبل من أهل السودان، ممن يشهد الا إله إلا الله وحده"
وفي هذا الحديث من لطائف المعارف ما أشرت إليه في مواضع أخرى ، ولم يكن ذلك تعصبا مني لأهلى في السودان، وما ينبغي لى وما أستطيع، ولكن ذكرت ذلك ، من أجل إظهار حقيقة كبرى، تنبأ بها نبي الإسلام العظيم، وساذكر في هذه العجالة رجلين من رواد الثورة الفكرية التي أرجو أن يكون قد حان زمانها وأظلنا أوانها.
التجاني يوسف البشير قيثارة الجديد الذي رمز لفرديته ولثورته باسمه اللطيف " إشراقة"
لقد عرف الناس التجاني شاعرا فذا، وأديبا مجددا، تميز بعبارته الرشيقة، وكلماته الأنيقة المسحورة... ولكن الناس لم يعرفوا التجاني، كرائد من رواد الثورة الفكرية، رغم انه قد دعا دعوة صريحة لثورة الشباب العارمة، فهو قد شعر بالموات والسبات العميق الذي كان يرقد فيه الشعب السوداني ، على جدار يريد أن ينقض، اليس هو القائل:
قف بنا نملأ البلاد حماسا ونقوض من ركنها المرجحن
إنه كان يريدها ثورة الشباب الذين كان يود إستنهاض هممهم:
إنها ثورة الشباب، لم اجد كالشباب يبسا مراعيه ولا كالصبا أعز لعيني
بل إنها ثورة الحياة، التي إستفاقت على أسلحة فتاكة، وقذائف رعناء، في الحرب العالمية الأولى:
إنها ثورة الحياة فمن للكو ن يحميه من قذائف رعن
ولكن التجاني، لم يكن يملك لصد الشر القادم من كل الإبواب، سوى قلمه الصارم الذي يقاتل به وطرسه أي كتابه الذي يتوشح به صدره الوضاء المزين بفنه البديع:
من لهذا الأنام يحميه عني قلمي صارمي وطرسي مجني
هو فني إذا إكتهلت وما زا ل على ريق الحداثة فني
بالرغم من هذا، فلم يعرف الناس التجاني ثائرا فكريا، لأن التجاني الحقيقي قد إختبأ خلف كلماته، مثلما يختبئ العطر في الورد، وقد رمز لفرديته ولثورته ب " إشراقة" ... أسمعه يقول:
انا إن مت فالتمسني في شع ري تجدني مدثرا برقاعه
وكيف تجد التجاني في شعره؟
أنت قيثارة الجديد بك استظه رمن في الوجود سرمتاعه
أدب ملؤه الحياة وشعر مفعم بالسمو في أوضاعه
عبارة " من في الوجود" تشير إ‘لى الهي المستقر الثابت في كل ذرات الوجود، وخصوصا قلب الإنسان، وعبارة " سر متاعه" تشير إلى المستودع، حيث العقل البشري خزينة الأسرار الإلهية، ولذلك فقد كان شعر التجاني مفعما بالسمو في أوضاعه... وبالطبع فإن التجاني قد كان يعلم أن الجمال هو جمال الله، المستقل عن الوجود ، كما يبدو ذلك في ابيات كثيرة من شعره البديع، كما أن التجاني كان يفهم أن الحرية أرفع من الحياة، وأن الحب أسمى من الحياة، لأنه نفحة من الزمان الأبدي المطلق:
والهوى نعمة الزمان ونعمى الخلد أسمى من الحياة وأرفع
ثم أن التجاني قد أخفى فرديته تحت إسم إشراقة... اسمعه يقول:
قطرات من الندى رقراقة يصفق البشر من دونها والطلاقة
ولكن ما هي قطرات الندى هذه؟ إنها نفس التجاني ذاته، اسمعه يقول:
هي نفسي من الندى قطرات لم تنالها يد الزمان بخلط
وما هوإسم هذه القطرات؟ إسمع التجاني يقول:
قطرات من التأمل حيرى مطرقات على الدجى مبراقة
تترسلن في جوانبي آفا قي شعاعا ... أسميته إشراقة
ثم يقول التجاني صراحة ، إن إشراقة هي نفسه ذاتها:
هي نفسي إشراقة من سماء الله تحبو مع القرون وتبطي
لهذا فقد كان التجاني لا يكتب بقلمه، وإنما يكتب بدمه:
من دمي يستدرها حر أنفاسي لهيبا... اسميته " إشراقة"
لقد كان التجاني ثائرا ورائدا من رواد الثورة الفكرية، ولكن نسبة لصغر سنه الحسية والمعنوية ، فقد كان في بداية طريق التجليات الإلهية، وفي أعتاب باب الدخول في الحضرة ، وهذا هو السر في تردده بين الشك واليقين، كما يظهر من قوله:
بين إثنتين، أسر أم أبكي قبس اليقين وجذوة الشك
ولكن مع كل هذا، فقد إستطاع التجاني بنضجه اللغوي وإشراقه الصوفي المبكر أن يضع بذرة الثورة، في أرض السودان، في محاولته لإيقاظ قومه من مضاجعهم ، فهاهو يقول لقومه النيام:
كم صباح نسجته انا والنج م وارسلت شمسه من محطي
قلت سيري على اسرة قومي واستحري على مضاجع رهطي
انا جراءهم سهرت ليستغشوا من اجلهم اصيب واخطي
إذن لم يكتف التجاني ، بإرسال شمس الحقيقة من ذاته، على أسرة قومه، عسى أن يستيقظوا، بل أرسلها لمضاجعهم أي الى مكان رؤوسهم النائمة، وهم قد إستغشوا، يعني تغطوا بثيابهم... والمضجع هو " المخدة" مكان النوم!!
محمود محمد طه العارف الكامل المحقق، رائد الثورة الفكرية
الذي رمز لفرديته، ب "الحزب الجمهوري" وب " السودان"
ومن حيث إنتهى التجاني، بدأ محمود محمد طه... أسمعه يقول:
" إن عصرنا الحاضر، يمكن أن يوصف بأنه عصر الذرة، ويمكن أن يوصف بانه عصر أستكشاف الفضاء الخارجي، ولكن ينطبق عليه أكثر، كونه عصر الرجل الشارع ... الرجل العادي المغمور، الذي إستحرت على مضجعه شمس الحياة الحديثة، فنهض وحمل عصاه على عاتقه وانطلق يسير في الشعاب، يبحث عن نفسه وعن حريته، بعد أن أذهل عن كل أولئك، طوال الحقب السوالف، من تاريخه المكتوب وغير المكتوب"
أرجو أن يلاحظ القراء الكرام، عبارة الاستاذ التجاني" أرسلت شمسه من محطي... قلت سيري على أسرة قومي واستحري على مضاجع رهطي" وعبارة الاستاذ محمود: " الذي إستحرت على مضجعه شمس الحياة الحديثة، فنهض وحمل عصاه على عاتقه وانطلق يسير في الشعاب"
الا ترى كيف بدأ الأستاذ محمود من حيث إنتهى الاستاذ التجاني، وكيف نهض الإنسان على يدي الأستاذ محمود من نومه... ليس هذا فحسب وإنما حمل عصاه على عاتقه... ليس هذا فحسب، وإنما إنطلق يسير في الشعاب.
ويرجع هذا إلى حكم الوقت وتطوره، ويرجع أيضا إلى نضج الأستاذ محمود الروحي، ودرايته بحركة سير التاريخ، ومعرفته بخبايا النفس البشرية ، وهو بذلك يختلف عن الاستاذ التجاني الذي كان في بداية التجليات الإلهية، رغم عرفانه الزاهر.
وبالرغم من أن الأستاذ الجليل محمود ، قد دعا إلى الثورة الفكرية، بعبارات واضحة ورصينة وبليغة، إلا أن حكم الوقت ، وإرادة الله، قد قضت، الا تنتشر الثورة الفكرية في زمانه، لإسباب كثيرة، نلقى بعض الضوء عليها في ختام هذا المقال الذي طال فيه بنا السرى.
ونسبة لشعورالاستاذ محمود محمد طه بتخلف الثورة الفكرية، والذي عبر عنه في بعض كتاباته، فقد آثر أن يرمز لفرديته ولثورته الذاتية، ب " الحزب الجمهوري" ... اسمعه يقول:
" إن الحزب الجمهوري لعلى ثقة بدعوته، وعلى يقين بربه، وهو يسمضي في سبيله غير هياب ولا وجل... فإن أقض ذلك مضاجع أقوام فلا نامت أعين الجبناء"
وقد ظهر مصداق ذلك عمليا، في إلتحاقه بربه ، بصورة مشرفة، غير هياب ولا وجل، فقد رفض أن يتنازل عن دعوته مقابل الإبقاء على حياته، لأنه قد كان وحده على ثقة بدعوته، وعلى يقين بربه، فمضى في سبيله وحده، خلافا لإتباعه الذين قبلوا يومذاك التنازل عن الدعوة.
لقد كان أتباعه مقلدين، وكان هو وحده الأصيل بينهم، بل إن أتباعه لا يزالون مقلدين إلى يومنا هذا، ومن حسن إكرام الله لهم ، انهم لم يحاولوا أن يقوموا بثورة، لأنهم إن قاموا بثورة، فإنها تكون ثورة تقليد، لا ثورة أصالة.
ومن دلائل حسن تربية الأستاذ للجمهوريين، ومن دلائل علم قادة الجمهوريين أيضا، أنهم لم يتبنوا دعوة لقيام الحزب الجمهوري، بل تنازلوا عن الدعوة ، عندما طلب منهم فقهاء النميري ذلك ، وفي ذلك خير لهم وخير للشعب، فإن الثورة الفكرية لا يبعثها المقلدون ، وإنما يبعثها الأصلاء، المتصلون بالله.
إن الثورة الفكرية ليست ثورة مواكب ومظاهرات، وإنما هي ثورة مستكنة في أعماق النفس البشرية، تقوم على الوعي الإلهي في المستقر، وليس على الوعي البشري في المستودع، كما سلفت إلى ذلك الإشارة.
وأحب أن أنوه في هذا المقام ، أن مقام تجويد التقليد ليس بالمقام الهين، لأنه إذا أحسن إستقصاؤه، فإنه حتما يقود إلى الفردية وسقوط التقليد، بلقاء روح الله المستقر في قلوبنا.
كذلك رمز الأستاذ الجليل لنفسه ب "السودان" أسمعه بقوله:
" أنا زعيم بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم... وأن القرآن هو قانونه ... وان السودان إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة للأمن، وحاجة الفرد إلى الحريةالفردية المطلقة، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب" فالسودان لم يقدم ذلك القانون، في أي صورة من الصور!! وإنما قدمه الأستاذ محمود، كما ان عبارة مركز دائرة الوجود، تشير إلى صاحب المقام العرفاني، الذي هو موضع نظرالله في الوجود، للصلة التي قامت بين القديم والحادث!! بين القلب والعقل!! أي تشير إلى الأستاذ محمود نفسه، ولم يذكر ذلك صراحة، من قبيل اللطف والأدب، الذي عرفه عنه كل من إتصل به.
ومعروف في ادبيات التصوف الإسلامي أن يشير العارف إلى نفسه، بقومه وببلاده، فهاهو العارف النابلسي الدمشقي يشير إلى فرديته بالشام وبالبلاد، فهو يقول:
وأنا البلاد وأهلها أنا لا سوى والشام دون البرية شامي
ولو لاضيق المجال، لأفضنا في ذكرى الثورة الفكرية عند الأستاذ محمود محمد طه ، ويمكن لمن شاء أن يلتمس ذلك في مظانه، فالاستاذ محمود صاحب مؤلفات كثيرة، وله كتيب إسمه " الثورة الثقافية" ومؤلفات اخرى ورد فيها ذكر الثورة الفكرية، وقد قام تلاميذه بحفظ تراثه العظيم، وذلك عمل جليل، يحمده الله ويحمده لهم الناس.
إذا كانت بذرة الثورة الفكرية راسخة الجذور في السودان
فلماذا لم تقم في السودان ثورة فكرية؟
هناك عوامل كثيرة، أدت وما زالت تؤدي إلى تأخير قيام الثورة الفكرية في السودان، أهمها الآثار السالبة للتصوف الإسلامي، وما صحب ذلك من تدهور روحي، أدى إلى إنحراف عن مبادئه القويمة في التربية والإرشاد، حتى إنطفأت أنواره ، وعاد التصوف طائفية دينية تستغل الولاء القديم، او طائفية سياسية تحول الأتباع إلى تحقيق منافع حزبية.
لقد كان لهذا الوضع سود العواقب، في الحياة السودانية الفكرية، التي سارت في طريق إنكار الآخر، وتقييد حرية الفكر منذ زمن بعيد، ويكفي أن النموذجين من نماذج المفكرين العظام ، والمشار إليهما أعلاه، قد تم تكفيرهما.
فهاهو نابغة الفصحى، ومفخرة السودان، التجاني يوسف بشير قد تم فصله من المعهد العلمي، بتهمة الكفر، فلندع التجاني يروي القصة بنفسه... يقول التجاني:
قالوا وارجفت النفوس واوجفت هلع وهاج وماج قسور غابه
كفر ابن يوسف من شقي واعتدى وبغى... ولست بعابئ أو آبه
أنظر إلى هذا التصوير الفني الدقيق الذي يجعلك تحس وتشعر ببداية الهوس الديني في أواخر العشرينيات من القرن الماضي... قسور جمع قسورة، وهي تعني الأسد... لقد كان شيوخ المعهد العلمي بأجسامهم الممتلئة، ولحاهم الطويلة ، مثل الأسود المفترسة، التي تجول في غابة المعهد العلمي، ونفوس تلاميذهم واجفة راجفة.... لماذا كل هذا؟؟ وضد من هذه المعركة ذات العيار الثقيل؟؟ إنها ضد صبي صغير، المعي فطن، رموه بالكفر وهوغير خائف، ولا آبه.
ماذا كان سيفعل اولئك الشيوخ ، لو كانت لديهم سلطة زمنية، مثل سلطة الإنقاذ؟ أسمع التجاني يجيب على هذا السؤال:
قالوا احرقوه بل اصلبوه بل انسفوا للريح ناجس عظمه وإهابه
ولوان فوق الموت من متلمس للمرء مد إلي من اسبابه
ولما كان السودان في ذلك الوقت بلدا متحضرا، يحكم بالقوانين الأنجليزية، بعيدا كل البعد عن قوانين سبتمبر وقوانين الإنقاذ، فلم يستطع شيوخ المعهد حرق التجاني أو صلبه، ففعلوا ما يستطيعون عليه وهو فصله من المعهد العلمي، وقد كان ذلك خيرا كبيرا للتجاني، لأن مثل ذلك المعهد، غير جدير بنابغة مثله.
ومن المؤسف حقا، أن فتنة الهوس الديني في السودان، ظلت تنمو وتترعرع، حتى جاءت قوانين سبتمبر المهينة المذلة، كمقدمة لعهد الإنقاذ، فتمكن السلفيون من تنفيذ خطتهم في قتل رجل هو من خير بني الإنسان، علما وفكرا، وخلقا وسلوكا، بنفس تهمة الكفر التي وجهت للتجاني.
ذلك الرجل هو الأستاذ محمود محمد طه، نموذج الثورة الفكرية التي تقوم على القلب السليم والعقل الصافي.... لقد تمت محاكمته في محكمة، أو مهزلة، وصمت القضاء السوداني بميسم الخزي والعار، ابد الدهر.
كل هذه التداعيات اجلت قيام الثورة فكرية في السودان، وما زاد الأمر سوءا، ان المدارس الثانوية التي انشئت خلفا لكلية غردون التذكارية، أخذت تستقطب الطلاب لدعوة الأخوان المسلمين التي تقوم على قشور الإسلام ، وقشور المدنية الغربية.
بعد ذلك صارت جامعة الخرطوم وطنا لدعوة الأخوان المسلمين ، ومكانا لتقييد العقول، وإهدار النبوغ، ثم لحقت بجامعة الخرطوم بقية المعاهد العليا، بالإضافة إلى رصيد الدعوى السلفية الجاهز، في المعاهد العلمية التي فصل منها التجاني يوسف بشير.
هذا الوضع لم يؤد إلى تأخير قيام الثورة الفكرية فحسب، وإنما أدى إلى الإفلاس الفكري والتخبط السياسي ، الذي تتم تتويجه بقيام ثورةالإنقاذ.
الثورة الفكرية لا تقوم على التراث القديم، وإنما تبدأ من حيث إنتهى
التراث القديم... إنها ثورة رجل الشارع العادي تطرق طريقا غير
مطروق... وهي تبني السودان الجديد.... تبني العالم الجديد
الثورة الفكرية ليست أصداء للتراث الصوفي السوداني ، ولاتكرارا للشاعر الفذ التجاني يوسف بشير، ولا تردادا للأستاذ الجليل محمود محمد طه، وإنما هي ثورة تحفظ لكل أولئك ولسواهم مكانتهم السامية ، وتتعلم من تجاربهم الثرة، ثم تنطلق في الشعاب، متجاوزة الحدود القديمة، وهي تعبر إلى حضرة القدس، بعد أن وجدت مكانها تحت الشمس: " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب" عبرة، يعني معبرا إلى أمر وراءه.
إن العلم الروحي مثل العلم المادي، يقوم على البحث الواعي، والملاحظة الدقيقة، والمراقبة والتامل والفهم للأمر الواقع، مع إستيعاب التجارب السابقة، والإستفادة منها ... على سبيل المثال، فإن علماء العلم المادي يفهمون ويهضمون علوم من سبقهم كأرخميدس ونيوتن وأنشتاين ، فيستفيدون من تجاربهم ويتعلمون منها، ويحفظون لإولئك الأساتذة مكانتهم، ولكنهم لا يتقيدون بهم ، ولا يعبدونهم ، وإنما يبدأون من حيث إنتهى أسلافهم.
وبالمثل في العلم الروحي، فإن العارف لا يقدس الذوات البشرية، ولا يفتتن بالأشخاص الفواني ، بل يستفيد من تجارب ومعارف السادة الصوفية، ولكنه لا يعبدهم ولا يتقيد بهم، وإنما يبدأ من حيث إنتهى اسلافه... وقل مثل هذا في سائر الانبياء، وفي سائر الأديان والأفكار، مهما عظمت تلك الأديان، ومهما دقت تلك الأفكار، فإن الله كل يوم في شان، والأصل في المعرفة الحقة، الحيوية والتطور والتجدد في كل يوم، بل في كل لحظة من كل يوم... وذلك هو الثورة الفكرية.
الثورة الفكرية ، هي ثورة رجل الشارع العادي المغمور، الذي يبني السودان الجديد، بل العالم الجديد، بالعلم وبالفكر ، وبالتامل الروحي... إنها ثورة داخل النفس البشرية، لاتقوم على المظاهرات والمواكب، وإنما هي ثورة في أعماق النفس البشرية، لتطهير مستودع العقل البشري حتى يرجع إلى سيرته الأولى ، فيغدو طاهرا بريئا وديعا، متصلا بالمستقر... في صفاء المستقر وفي نقائه، يجد العقل البشري، الله العظيم: " إلى ربك يومئذ المستقر"
الثورة الفكرية مثل الشمس ، لا يملكها احد، ولكنها تشرق على كل أحد... إنها ثورة يسهم فيها كل واحد منا حسب طاقته، ثم يؤثر سواه بحقه : " ويؤثرون على أنفسهم، ولوكان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه، فأولئك هم المفلحون"
هذا هو الطريق غير المطروق الذي يحقق السلام، ويبسط الأمن، ويجعل الإنسان - كماهو في الحقيقة - كائنا مقدسا، تستقر فيه روح الله، ولذلك لا يجوز سفك دمه، ولا إنتهاك حقوقه: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"
بهذا وحده، يعرف كل واحد منا نفسه، وينتجع لنفسه الحلول المناسبة التي بمواصلة السير فيها، تحل مشاكل السودان، ومن ثم مشاكل العالم، لأن مشكلة الفرد البشري، تحكي قصة النوع بأجمعه... إنها مشكلة واحدة، تتلخص في الخوف والحزن والمقاساة والإضطراب والقلق والتناقض والجشع والطمع والجهل والألم والجوع والفقر والظلم ... بهذه الثورة يحل في الأرض السلام، وإلا فلا... وعلى الله قصد السبيل.
بدرالدين يوسف دفع الله السيمت
كتبه في البحرين في يوم الخميس:
السابع عشر من مارس 2011 ميلادية
يوافق الثاني عشر من ربيع الثاني 1432هجرية
بدرالدين يوسف دفع الله السيمت
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.