"أمريكا قد دنا عذابها" هكذا بدأت الحكومة مشوارها قبل ثلاث وعشرين عاماً ، هذا المشوار المرهق والمتعب ، الذي نستطيع الآن أن نجزم بأن من قاد مسيرته لم يكن محظوظاً أبداً ، جازف بحياته ، وبقانون العسكرية واستولى على السلطة ، ومنى الشعب بالأماني ، إلا أنه لم يكن على دربة أو خبرة تمكنه من تحقيق هذه الأماني فالتفت حوله مجموعة جاهلة وانتهازية أرهقته وأرهقت شعبه إرهاقاً كبيراً. انتهى ذلك الشعار بمحاولات دؤوبة لاسترضاء أمريكا ،.. باءت بالفشل. "تمزيق فاتورة السكر والقمح والبنزين وخلافه" رفع هذا الشعار وانتهى بتمزيق الوطن. لكن هذه لم تكن ضربة البداية . لقد كانت الاخطاء تتوالى ، منذ الغزو العراقي ، وخسارة دعم ومساندة دول الخليج لقضايا السودان وإضاعة دولة مهمة كالكويت كانت دائما مع الشعب السوداني في ملماته . واستمرت الأخطاء بإيواء ابن لادن وكارلوس وحماس ومجموعات البشتون من تنظيم طالبان الذين كنا نراهم برائحتهم النتنة ولحاهم القذرة وهم يجوبون شوارع الخرطوم بملابسهم المعروفة . وتوالت الأخطاء باستعمال أساليب غير دبلوماسية في معالجة التوترات مع مصر . كل ذلك أفضى إلى حصار اقتصادي مؤلم ووضع في لائحة الدول الداعمة للإرهاب وقصف صاروخي لم تعلم بحقيقته الحكومة إلا من خلال القنوات الفضائية وإعلانات البيت الأبيض ، وخسرت الدولة المجتمع الدولي الذي ساند السودان طويلاً حتى إبان المجاعات والأزمات التي مرت بالدولة. تحويل الحرب في الجنوب من حرب بين متمردين إلى حرب بين كفار ومؤمنين ، أثار حفيظة منظمات حقوق الإنسان واكسب الحركة الشعبية أرضية وسند أخلاقي لتحصل على الدعم الدولي لا سيما الأمريكي . ثم بدأت الحكومة تتخبط في سياساتها الاقتصادية ، وحين أصدرت المراسيم التي أعدم بسببها العديد من مجرد حائزي أموالهم من الدولارات كجرجس وغيره ، لم تصن الحكومة هذا الاتجاه وأخذت تسير في حالة من التخبط ما بين غلق السوق وإطلاقه وتحرير العملة الحرة وتقييدها . واستمرت الأزمة تعصف بالدولة جراء سياسات التمكين الاقتصادي المستندة إلى قوله تعالى "الذين ان مكناهم في الارض اقاموا الصلاة واتوا الزكاة "(الحج 41) وهذه الأسلمة البائسة لجعل أموال الدولة دولة في يد قلة كانت انتهازاً وافتراءً يستخف بالله ورسوله وشريعة الإسلام السمحاء التي لا تقبل جعل المال دولة في يد قلة وقد قال تعالى : "كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم" (الحشر 7) . واكب ذلك التمكين في الخدمة المدنية ، وحالات الإقصاء والإحلال بكوادر قليلة التأهيل ، أكبر شغلها وهمها الإسترزاق قبل فوات الأوان. وهكذا ترهلت الدولة ، وساد الفساد حتى نخر كالفيروس في مفاصل الإدارة ، حتى بلغ الأمر مبلغه بصراعات فيما بين أصحاب الشوكة أنفسهم ، فينتهي الصراع بانتصار صاحب الشوكة الأقوى على صاحب الشوكة الأضعف إما بالإقالة إو الإستقالة ، وخاضت الإدارات في صراعات بغرض تصفيات حسابات شخصية وتأكيد النفوذ. ولم يطل الشباب من غير المنتمين إلى دائرة التمكين إلا الإحباط والبؤس ، وهم إما لا يجدون التزكية من نافذ في الدولة (لعدم الانتماء) أو بسبب الفحص الأمني لملفات المعارضين منهم للحكومة والذي يتم تقديمه عند كل وظيفة يقدم لها الشباب من الخريجين البائسين الذين لا ينضوون لدائرة التمكين. ثم بدأت معالم قوى الهامش تنهض في دارفور في بداية عام 2003م ، ورفضت الحكومة التعامل معها بجدية ، مما جعلها تتفاقم في عام 2005م تفاقماً متسارعاً أفضى إلى معالجات عشوائية ومتسرعة وخائفة بل ومرعوبة ، فتفاقمت الكارثة وزادت الحكومة الطين بلة وأنتجت محاكم جنائية دولية واتهامات بجرائم حرب وإبادات جماعية وخلافه مما هو معلوم للكافة . ولم يمض عام 2005م إلا وقد برزت بدايات فصل أكثر من ربع مساحة الدولة ومنحه طوعاً وكرهاً لحركة متمردة لم تكن تحلم يوماً من الأيام بأن تحصل على رئاسة الدولة ناهيك عن أن تملك أقليماً كاملاً ذاخراً بالنفط والثروات الحيوانية والزراعية والذهب وخلافه . ولم تكن الحركة الشعبية –وحتى تاريخ الانفصال- تملك سنداً جماهيرياً ضخماً في الجنوب ، فإذا بها تضحى بين ليلة وضحاها قائدة الإستقلال وتنفرد بحكم دولة كاملة رزقها بها الله من حيث لا تحتسب. واستمر جهل النافذين والمتنفذين في الحكم فلا تراهم إلا وهم يتخبطون كمن يتخبطه الشيطان من المس ،تعنتاً وما التعنت إلا السلاح اليتيم لمن أسقط في يده وحار به أمره فلا يستطيع بغير تعنته مضياً ولا هو من القائمين. وإذ نفشت غربان الجهالة سرابيلها المثقوبة محاولة رتق ما بقى من أسمالها البالية ، فإذا بها تتخذ من الجانب الأمني سلاح لها في مواجهة الخرائب والأنقاض ؛ ولعمري إن بناء الدولة لا تهدمه إلا القوة الجاهلة ولا يقيمه إلا العقل المستنير . غير أن لباس الأمن لم يصمد لما ابتلاه الله بأقل المحن ؛ كُشفت عورته وبانت سوأته ، فما رأينا إلا والأمن ينهار في كل أطراف الدولة ، ليس في دارفور ولا النيل الأزرق وأبيي وغيره ، بل حتى من حدوده الشرقية حين اخترقت طائرات دولة مجهولة المياه الإقليمية للسودان وبحره الإقليمي وسيادته البرية وأخذت تعمل تقتيلا وتفجيراً لمواطنين سودانيين وأجانب ، ولم تحرك الحكومة ساكناً وقد اسقط في يدها ، وتعرت قوتها أمام قوة أكبر منها ، فلا مضادات أرضية ولا جوية ولا رادارات مجهزة تصد أو على الأقل تكشف أي عدوان خارجي من أي دولة معادية . فإن كانت الحكومة تعلم بذلك مسبقا- وهذا مستبعد- فإنها لطامة وإن لم تكن تعلم فتلك هي الطامة الكبرى. خسرت الحكومة كل شعاراتها ، وبذلت ما بذلت لترقيع ثوبها الذي شوهته بيدها ، فطردت ابن لادن وسلمت كارلوس وتخلت عن حماس ، وفصلت الجنوب ، وسكتت عن حلايب وشلاتين والفشقا وغيرهن ، بل حتى الشعار الديني ألقته وراء ظهرها فبعثت بصلاح قوش إلى أمريكا لتسلم المخابرات الأمريكية أسماء المجاهدين (الحقيقيين) في أفغانستان والشيشان وغيرهم . فباعتهم ، ولم نسمع من علماء السلطان وتنابلته فتوى تكفير واحدة منهم وهم من أدمنوا التكفير لمعارضي الحكومة واستسهلوا فتاوى هدم الكنائس وحرق الأضرحة وإهدار دم المخالفين . فما بالهم اليوم بالحق لا ينطقون . أم على قلوب أقفالها أم أنهم كانوا ينعقون بما لا يعقلون. ولما حار بالحكومة الأمر أخذت تطلق الاكاذيب يمنة ويسرة ، وكانت أكاذيبها تنكشف عند أول اختبار أمام الشارع حتى أن أول قرار بعد الانتخابات كان سجن الترابي الذي شارك فيها وتشويه سمعة الإتحاديين وهم أيضاً شاركوا فيها ، فكأنما الحوكمة قد أضحت كمن صاح مخادعاً قومه "النمر .. النمر" فلما جاءه النمر حقاً ما وجد له من مصدق ولا نصير.ولكن ألم يفز زين العابدين بن علي في آخر انتخابات (حرة ونزيهة) له مكتسحاً معارضيه ، وألم يحصل مبارك على أعلى الأصوات في آخر انتخابات (حرة ونزيهة) رسمها ولونها لنفسه في آخر سنوات حكمه. فهل نفع الكاذبين كذبهم ؟ ضاعت ممتلكات الشعب بالكامل ، فأموال البترول إما ذهبت إلا حيث لا نعلم أو إلى ترضيات سياسية وشراء الذمم وكتم أصوات المعارضين والقواد من حاملي السلاح وزعماء القبائل، وانهارت النفرات أجمعها وباءت بالفشل وباء الشعب بغضب من الله تعالى . وانجذب الشعب إلى قبيلته فصار شيعاً ، عمقتها الصحف العنصرية المدعومة من أصحاب الشوكة من الجاهلين ، لتقسم الشعب وليعادي أبناء الوطن الواحد بعضهم البعض فيلهيهم العداء عن رؤية العدو الحقيقي ،ويمنعهم العداء من التناصر والتعاضد من رد حقوقهم المنهوبة، وتحاصرهم مخاوف العنصرية النتنة من الإلتفاف حول البديل المشترك والقائد الملهم المنتظر. (2) النهاية: إلا أن المصائب يجمعن المصابين ، وقد تراكمت المصائب تراكماً جسيماً على كاهل المواطنين من دارفور وحتى بورتسودان ومن حلفا وحتى أبيي ، ومن سائر بقاع الوطن ومن كل فج عميق. الجهل والمرض والفقر والعطالة والبطالة، والحرب والموت والدماء والدموع ، انعدام الأمل واسوداد النظرة إلى شفق المستقبل ، وانتشار الفساد والمحسوبية ، وبناء القصور الشامخات من أموال اليتامى والفقراء والمساكين وأبناء السبيل. وانتشار القهر بيد الممسكين بزمام القانون الذي افتقد إلى أبسط مقومات الشرعية الإجرائية ، ووضع المواطن في حالة الخوف الدائم من أبسط رجل سلطة وتعقيد الإجراءات لمن لا ينتمون إلى دائرة التمكين والتساهيل التي تمنح لمن هم في دائرة التمكين ، حتى شهد السودان لأول مرة منذ استقلاله صورة الطبقية في طبقتين فقط؛ (طبقة ارستقراطية تملك ما لا تستحق) و (طبقة كادحة تنتهك حقوقها وتؤكل وتصادر أمام سمعها وبصرها) وهي عاجزة عن رد العدوان . وتم تدمير الطبقة الوسطى التي كانت تقف في الحياد من أمرها من قبل. تفشى الجهل بإنهيار المؤسسات التعليمية ، والموت بإنهيار المؤسسات الصحية ، وانهارت الصناعات بفضل السياسات الإقتصادية المتخبطة ، وفر المستثمرون بسبب عدم استقرار سياسات الدولة والحروب ، وبسبب الحصار الاقتصادي ، وترك المزارعون حقولهم ،ومنح التمويل الأصغر لأبناء النافذين من أصحاب الشوكة ومنع وعرقل لمن لا ينتمون لأبناء النافذين من أصحاب الشوكة. وحين حاول الأفراد الخلاص بأنفسهم بالهجرة فأرض الله واسعة ، كان جواز السودان الأخضر مختوماً من المجتمع الدولي بختم الدولة الراعية للإرهاب فحوصر المواطن الذي لا ظهر له بين الرمضاء والنار. (3) السيد الرئيس : لو أن مياه نهر النيل مداداً لكلماتي لما نفدت ، ولكني أقولها باختصار : لن نقول بأنك فشلت ولكننا نقول بأنك (لم توفق في إدارة الدولة) ....... فترجل كفارس شجاع ... وارحل بكرامة النبلاء.