عندما ألقت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، أول كلمة رئيسية عن حرية الإنترنت في يناير 2010، لم تكن تعلم سوى القدر اليسير عن «ويكيليكس» والثورات التي سيقدر لها أن تندلع في تونس ومصر. وفي غمار إعلانها عن أن حرية الإنترنت سوف تكون أولوية جديدة للسياسة الخارجية الأميركية، قدمت كلينتون تفاصيل قليلة حول كيفية مطابقة هذه المبادرة المثالية الجديدة، مع الأسس الواقعية القائمة حالياً لهذه السياسة، تلك الأسس التي اهتمت في كثير من الأحيان بالاستقرار على حساب الحرية. وجاء خطاب المتابعة في هذا الصدد، والذي ألقته كلينتون أخيراً في جامعة جورج واشنطن، سعيا للاستفادة من الإثارة العالمية بشأن دور وسائل الإعلام الاجتماعية في الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط، وتصحيحاً لبعض التجاوزات الكلامية التي وردت في خطاب 2010، ومحاولة للتوفيق بين التناقضات المتأصلة في الطموح إلى تصدير حرية الإنترنت إلى الخارج، بينما يتم تقييدها في الداخل، مع سعي وكالة الأمن القومي الأميركية ووزارة الأمن الداخلي، لفرض المزيد من الرقابة على الانترنت. أولاً، نبدأ بالخبر السار. انتهت الرؤية المستمدة من حقبة الحرب الباردة بشأن الإنترنت، باعتبارها شبكة أسرع وأكثر اعتمادية من أجهزة الفاكس النشطة. وفي الوقت الذي كان خطاب كلينتون في عام 2010، مفعماً بالإشارات إلى «ستار المعلومات الذي أسدل على جزء كبير من العالم»، وإلى جدار برلين الذي تحل محله «الجدران الافتراضية»، وإلى «أشرطة الفيديو والمدونات الفيروسية»، التي تصبح مواد محظورة في عالم اليوم، حيث تجنبت الاشارة في كلمتها الأخيرة إلى مثل هذه الكليشيهات المبتذلة والاستعارات غير المناسبة تماما. وجاء اعتراف كلينتون متسماً بالقدر نفسه من الواقعية، بأن «ليست هناك تطبيقات» لحلّ مشكلة الرقابة على الإنترنت. وبينما من المهم مواصلة الاستثمار في أدوات للالتفاف حول الرقابة التي تفرضها الحكومات الاستبدادية، فإن فلترة الإنترنت تعد مجرد أداة من العديد من الأدوات في ترسانتها. ويتسم العثور على وسيلة لحماية الناشرين المستقلين من الهجمات الالكترونية وغيرها من أشكال الترهيب على الانترنت، بالقدر نفسه من الأهمية. الخبر الآخر السار، هو إحجام وزارة الخارجية عن اتخاذ موقف في النقاش المحتدم بشأن ما إذا كان الإنترنت بمثابة أداة للتحرير أو القمع (وصفت كلينتون هذه المناقشة بأنها «لا مجال لها إلى حد كبير»). ومن الواضح أنها وسيلة لكليهما، وهي الدرجة التي تحرر أو تقمع اعتمادا على السياق السياسي والاجتماعي، وليس على الخصائص الفردية لتكنولوجيا الإنترنت. الأمر يدعو للطمأنينة بأن نرى هيلاري كلينتون تحقق توازناً معقولاً بين المثالية الحاسوبية والتشاؤم الحاسوبي، وتتبنى موقفاً واقعياً حاسوبياً والتعامل مع الإنترنت كما هي (وليس كما نود أن تكون)، وهو السبيل الصحيح للمضي قدماً. أما الخبر غير السار، فهو أن خطاب كلينتون له أهمية بالنسبة للمواضيع التي تجنبت الخوض فيها. وهذه الموضوعات المسكوت عنها، هي التي تخبرنا بشكل أكبر عن تحقيق التقدم (أو عدمه) في الكيفية التي تفكر بها الحكومة الأميركية، حول موضوع معقد مثل حرية الإنترنت. لسوء الحظ، لم يكن هناك أي ذكر إلا بالكاد للدور الذي تلعبه الشركات الأميركية في قمع حرية الإنترنت. من المفترض أن يكون أمراً غاية في الحرج بالنسبة لهيلاري كلينتون، أن تقوم شركة «ناروس» الأميركية المملوكة لبوينغ، بتزويد مصر بالتكنولوجيا التي سمحت بالتجسس على مستخدمي الإنترنت. أو أنه قبل شهرين فقط، منحت وزارة الخارجية الأميركية جائزة الابتكار لشركة أميركية أخرى، وهي «سيسكو»، رغم أن هذه الشركة قدمت بعض المكونات الرئيسية لنظام المراقبة الصارمة للانترنت في الصين. هناك مسألة شائكة ناشئة عن اعتمادنا المتزايد على شركات مثل فيسبوك وتويتر وغوغل، بوصفها مزودة للبنية التحتية الرقمية التي تجعل الحركات الناشطة أمراً ممكناً. وكانت كلينتون محقة في اعترافها أن الإنترنت هو «المجال العام في القرن 21»، ولكن هذا المجال يبدو اليوم أشبه بمركز للتسوق أكثر من كونه ساحة مجتمعية. والانطباع الأكثر وضوحاً الناتج من متابعة الأحداث الأخيرة في مصر وتونس، هو أن هاتين الثورتين لم تحدثا بسبب فيسبوك وتويتر وغوغل، ولكنهما اندلعتا رغماً عنها. ففي الوقت الذي كانت تستخدم خدماتها على نطاق واسع من قبل نشطاء على أرض الواقع، التزمت الشركات الأم الهدوء للغاية. ولسبب وجيه، فإن الجميع لديه مصالح تجارية عالمية، وتضع نصب أعينها التوسع في الخارج. ونظرا لاعتبارها المنافسين الرقميين لشبكة صوت أميركا، فهي ملتزمة بتأسيس التزامات إضافية لها في أسواق مهمة مثل روسيا أو الصين. علينا الا نتوقع أن هذه الشركات سوف تخطئ دائما لصالح المحتجين، ولكن ينبغي لنا أن ندفع بها إلى التصرف بمسؤولية أكبر. فعلى سبيل المثال، ليس من المجدي بالنسبة للحكومة الأميركية توفير الأدوات للناشطين، للوصول إلى الانترنت بهويات مجهولة إذا لم يتمكنوا من استخدام خدمات مثل الفيسبوك بأسماء مستعارة. فالموقف الصعب للفيسبوك لاستخدام الأسماء المستعارة، غالبا ما يؤدي إلى مواقف أكثر فضولية. ففي ديسمبر 2010 أوقف فيسبوك حساب الروسي «ميخائيل خودوركوفسكي» المسجون، مطالبه بأن يقدم نسخة ممسوحة ضوئيا من جواز سفره، ربما، وهو ما لا يعتبر شيئاً يسهل إرساله عبر البريد الإلكتروني من سجن في سيبيريا! إن الخطر المطروح في هذا المجال، هو أن اندفاعة واشنطن النبيلة والمثالية للترويج لحرية الانترنت، قد تكون عذراً آخر لعدم إعادة تمحيص الأسس المزدوجة بعمق والصارمة، للسياسة الخارجية الأميركية. المصدر: البيان 28/2/2011