في الذكرى الثانية «لإعادة التشغيل» في العلاقات الروسية -الأميركية لا يزال الجدل محتدماً بين نظرتين رئيسيتن إلى العلاقات الروسية -الأمريكية، إحداهما سوفييتية تقليدية ترى أن الديمقراطيين الأميركيين أقرب إلى روسيا من الجمهوريين بسبب «تقدميتهم» وتسامحهم مع الثقافات الأخرى، بما فيها الروسية، ونظرة أخرى، نمت على خميرة البراغماتية السوفييتية السابقة، وترى في الجمهوريين الخيار المفضل وذلك بسبب «رجعيتهم»، فهم - حسب نيكسون - ليسوا بحاجة لأن يثبتوا لأحد وطنيتهم، لهذا فمن السهل التعامل والاتفاق معهم. قرار أوباما في العام 2009 بالمضي بسياسة «إعادة التشغيل» وجه الريح على شراع النظرة الأولى، لكن هذا الشراع كان يحوي ثقبا كبيراً: من الواضح أن قرار أوباما أملته رغبة براغماتية خالصة، وهي خصلة من خصال الجمهوريين، لا الديمقراطيين. الإيديولوجيا ضد البراغماتيين: أوباما، يرفض أن يرى في روسيا تهديداً، وهو ما يميزه عن جورج بوش الابن، كما أنه يرفض تجاهلها، عملا بنصيحة كثيرين من حوله، لهذا أقام معها حواراً ووافق على مراعاة مصالحها. لكن هل هذا لا يعني أن علاقات روسيا بأمريكا قد وضعت على سكة مستقيمة صلبة، لا يمكن على الإطلاق تحييد روسيا عنها، فالنظرتان إلى العلاقات الروسية -الأمريكية، الواردتان آنفا، تبسطان المسألة جدا، ولاسيما أن الخط الفاصل بين مؤيدي ومعارضي الحوار مع روسيا في أمريكا لا يرسم على أساس حزبي، فأصدقاء روسيا وأعداؤها أيضا موجودون في كلا الحزبين، وإنما وفقا للمصالح البراغماتية والإيديولوجية، وهاتان القوتان غالبا ما تصطدمان بعضهما ببعض لترسما في نهاية المطاف مساراً مشتركاً، يكون إيجابيا ومقبولا لروسيا في حال انتصرت القوة البراغماتية على الإيديولوجية، والعكس صحيح. وتفسير ذلك يكمن في أن النزاع بين روسياوالولاياتالمتحدة لا يقوم في واقع الأمر على أسباب مادية، وإنما إيديولوجية. وجذر المشكلات بين الطرفين يكمن في أن الإيديولوجيا الخاصة بالسياسة الخارجية الأمريكية، بل والأوروبية، والتي نشأت في ظروف المواجهة مع الأنظمة الشمولية في ألمانيا والاتحاد السوفييتي تحولت إلى ما يشبه ديانة تقدس «الديمقراطية» في المقام الأول. عدم تماشي هذه الديانة مع الواقع واضح للعيان. فثمة في العالم ديمقراطيات فقيرة، لكنها برأي الغرب غير مستقرة وتنذر بخطر الانفجار على الجيران (انتصار حماس في غزة، ولبنان الديمقراطي غير المستقر)، وثمة في المقابل أنظمة استبدادية، لكنها، برأي الغرب غير خطرة على العالم. مع الأسف، إن كره الغرب لروسيا كدولة معادية جينياً للديمقراطية ،كما يزعم، هو جزء لا يتجزء من الإيديولوجيا الغربية التي عفا عليها الزمن. هذه الإيديولوجيا الهرمة كلفت الولاياتالمتحدة كثيراً. ومع عدم وجود إيديولوجيا جديدة يحاول أوباما أن يروج لإيديولوجيا قديمة، وهي إيديولوجيا «الهذر» أي أن يغلف الأهداف والمهام البراغماتية بإطار كلامي عن حقوق الإنسان. أليس من السخف أن يتبين فجأة لواشنطن والغرب عموما، بعد مرور 42 عاما على وصول القذافي إلى سدة الحكم في ليبيا أن الأخير ينتهك حقوق الانسان؟. لا يمكن أن نقول في هذا السياق إلا أن الولاياتالمتحدة «وناتو» والاتحاد الأوروبي قد تجاهلوا على مدى هذه السنين امتعاض شعوب الشرق الأوسط المتعطشة للحرية، والتهوا بمسألة أسطورية لا أساس لها، وهي «التوسع الروسي». هل ثمة توافق في المواقف الروسية الأمريكية إزاء ليبيا؟ مثل هذا التوافق ينبغي أن يتم، لكن شيئا لم يقرر بعد بهذا الصدد، والأمر مرهون بالرؤية التي ستنتصر وستسود في فهم الأحداث الليبية. إن سادت الرؤية البرغماتية وتم اعتبار هذه الأحداث تحدياً وتهديداً فينبغي على الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةوروسيا التحرك معا من أجل صده وسيكون ذلك أمرا جيدا ، لكن ماذا لو سادت الرؤية الإيدلويوجية للأحداث في الشرق الوسط وشمال أفريقيا، وتم النظر إليها على أنها انتصار للديمقراطية و«مقدمات» «لثورة وردية» في روسيا؟ عندها على الفور ستتشكل من فراغ ساحة للنزاع بين روسيا والغرب. ثمة مَنْ يقول: إن الأمريكيين شعب براغماتي، ولا يمكن أن تسود الأوهام الإيديولوجية لديهم على الحقائق والمصالح العملية. هذا الكلام مع الأسف غير دقيق، وثمة أمثلة عدة في تاريخ العلاقات بين روسياوالولاياتالمتحدة على نزاعات قام أساسها على أوهام الأمريكيين، منها ما زعم بأنه «حصار الطاقة» لأوروبا من قبل «غاز بروم» والذي تمت مناقشته بمنتهى الجدية في بروكسل وواشنطن، واحتمال هجوم روسيا على جزيرة القرم بعد حرب القوقاز في 8 آب 2008. من هنا، فإن «التوافق حول ليبيا» بين موسكو وواشنطن مازال في إطار البناء، تماما كما القاعدة الإيديولوجية «لإعادة التشغيل» في العلاقات بين البلدين، التي مازالت إلى الآن ترتكز في الكثير من جوانبها على مبادرات شخصية من الرئيسين الروسي والأمريكي. المصدر: تشرين 13/3/2011