»حب الوطن من الايمان« عبارة جليلة، وكلام نفيس يشعر الانسان تجاهه بحجم المسئولية تجاه وطنه، ويكشف له عن مقام الوطن في حياة الانسان، والموت دونه والدفاع عن ترابه شهادة يدخل بها الانسان الجنة. إذاً، فلا يكفي أن تدعي أنك تحب وطنك وأنت في حقيقة الامر تكيد له مع الكائدين، وتدبر ضده مع المدبرين، وتخونه مع الخائنين، إن حب الأوطان يقتضي غير هذا، ويوجب عليك أن تبذل أغلى ما تملك في سبيل الدفاع عنه، ورد الأعداء الغاصبين إياه. حب الوطن شعور لابد أن يملأ جوانب نفسك، وان يهيمن على مجامع قلبك، ويدفعك الى المبادرة لرد أي اعتداء عليه حين تستشعر أن هناك خطرا يهدده، وأعداء يتربصون به الدوائر. لا يتفق حب الوطن والولاء له مع الافساد فيه، بل ان المؤمن الحق لا يفسد في الارض كل الارض بعد اصلاحها، وعليه ان يصلح ما افسده غيره، وان يزيد الصالح صلاحا. حب الوطن يوجب على الانسان ان يقدم مصلحة وطنه على مصلحة نفسه، وانه حين يسعى الى طلب الاصلاح لابد ان تكون وسيلته الى ذلك هي صالحة في ذاتها، ففي الاسلام لابد ان تكون الوسائل شريفة والغايات شريفة، فكسب المال مثلا يحتاج الى شرطين: الأول: ان يكسبه الانسان من حلال، والشرط الثاني: ان ينفقه في حلال ف »نعم المال الصالح للعبد الصالح« وسوف يسأل الانسان يوم القيامة في المال سؤالين: الاول: من أين اكتسبه، والثاني: فيم انفقه، وهما سؤالان اجباريان كما يقال عن اسئلة الامتحانات في المناهج الدراسية. ومن مكانة الوطن عند الله تعالى ان الرسول صلى الله عليه وسلم أباح الكذب في موطن الدفاع عن الوطن حين يتعرض لغزو خارجي. الذين يفسدون ولا يصلحون ولاؤهم ليس للوطن، والذين يكونون معول هدم لأوطانهم في أيدي أعداء الوطن ولاؤهم ليس للوطن، والذين يستعينون بقوى خارجية لغزو بلادهم واستعمار اوطانهم ولاؤهم ليس للوطن. إذاً، فالولاء انتماء لا ادعاء، والولاء حب لا كراهية، والولاء اصلاح لا افساد، والولاء تعمير لا تدمير. هذا هو الولاء للوطن الذي نعرفه، وتربينا عليه، وشربناه مع الحليب وتنسمناه عبيرا طيبا. هذا هو الولاء للوطن الذي يوجب لنا من الحقوق ما يوجب علينا من الواجبات. هذا هو الولاء للوطن الذي يرقى به وطننا، ويتقدم على غيره من الأوطان. هذا هو الولاء للوطن الذي يسعد به الوطن ويسعدنا معه. هذا هو الولاء للوطن الذي يكسبنا احترام الآخرين لنا، وتقديرهم إيانا. قد يكون هناك اختلاف في الرأي بين المواطن والنظام الحاكم، وأي البلاد لا يوجد فيها مثل هذا الاختلاف؟ ولكن يجب الا يؤدي الاختلاف في الرأي الى الافساد والى التدمير والى الاستعانة بأعداء الخارج. يجب ان يسود الحوار حياتنا لبلوغ ما نريد بأقصر الاوقات واقل الخسائر، ومعلوم في الدين ان الضرر الاصغر لا يُزال بالضرر الأكبر، وان تغيير المنكر اذا كان سوف يؤدي الى منكر اكبر منه يترك المنكر الأصغر. هكذا علمنا الاسلام، وهكذا تعلمنا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. حب الوطن هو الحب الصافي النقي الذي لا يخالطه انتماء إلى جهة خارجية، أو إلى طائفة، فمتى دخلت الطائفية في حب الوطن عكرته، ومتى كان الولاء أو الانتماء إلى جهة خارجية يزاحم حب الوطن في قلب الانسان فقد فسد هذا الحب وتحول الى واجهة خطرة تخفي وراءها الخيانة والعداوة للوطن ولأهله. لقد تغنى الشعراء والكتاب بحب الوطن، وسارت قصائدهم وكتاباتهم شواهد يرددها الناس في أحاديثهم وفي أسمارهم، ولقد قدم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حب الوطن حين خرج من مكة مهاجرا بعد أن ألجأه قومه الى الهجرة، وقف على ربوة وألقى النظرة الأخيرة على وطنه وأرضه التي تربى عليها وشرب من مائها وتنسم عبير شذاها، وقال تلك القولة الشهيرة التي تعبر عن مدى حبه لوطنه، وشغفه به، وعشقه له، قال: إنك أحب البلاد الى الله، وأحب البلاد الي ولولا ان أهلك قد أخرجوني ما خرجت، ثم تساقطت دمعات على وجنتيه. لقد فاق حب الوطن حب النفس والأهل والولد والمال ولقد سطر المسلمون الأوائل ملاحم من الحب والتضحية والفداء في حب الوطن. إذاً، لم يكن هناك حب يفوق حب الوطن الا حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتصار لهما والتضحية من أجلهما. هذا هو الحب الوحيد الذي يقدمه الانسان على حب وطنه، اما نفسه فيبذلها رخيصة في سبيله، اما اهله وولده وماله فيضحي بهم اذا اضطره حب الوطن والدفاع عنه الى ذلك. اذاً، فمن يزعم أنه يحب وطنه ويسعى الى الاصلاح ثم يروع الآمنين من بني وطنه، ويقطع عليهم الشوارع، ويهجم على دور العبادة، ويحرق ويدمر ثم يتشدق بحب الوطن، ويحتل المراكز الصحية والمستشفيات ويعطل عملها عن استقبال المراجعين من المرضى، ثم يردد شعارات فارغة في حب الوطن، هو غير صادق في قوله وعمله. يدعو الناس الى عدم الانتظام في اعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم ويدعو الجمعيات المهنية الى الاضراب العام الذي يعطل مصالح الناس، ثم يتغنى كاذبا بحب الوطن، ينتفي حب الوطن عنه. لقد نعى الله تعالى على طائفة من الناس يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فقال تعالى: »يا أيها الذي آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (4)« ]الصف[. إذاً، فحب الوطن أفعال لا أقوال، ومواقف لا شعارات، وارادة حرة تريد الخير لوطنها وليس ارادة مقيدة بمصالح خارجية لا يجني الوطن منها الا الشر والفساد. وحتى تكون صادقا في حبك لوطنك، وولائك له، لابد ان يكون لسان الحال مطابقا للسان المقال، وان يكون باطنك هو ظاهرك نفسه. لا تجوز التقية في حب الوطن بينما هي تجوز مع العدو، بل هي واجبة معه، يقول تعالى: »لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير« ]آل عمران/28[. ذلكم هو حب الوطن على الحقيقة لا المجاز. ذلكم هو حب الوطن انتماء لا ادعاء. ذلكم هو حب الوطن حبا لا كراهية. ذلكم هو حب الوطن تعميرا لا تدميرا. ذلكم حب الوطن اصلاحا لا افسادا. ذلكم حب الوطن وغيره ادعاء وكذب وتزوير. المصدر: اخبار الخليج البحرينية 27/3/2011