ما يثير الدهشة والاستغراب أن تسمع أحيانا داخل أوساط الإعلام والسياسة مَنْ يردد عبارات جاهزة لايقبلها الواقع من مثل: إن الولايات بتصفيتها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن على أرض دولة ثانية ذات سيادة، وهي باكستان، من دون إذن من الأخيرة، قد خلقت «سابقة» بانتهاك سيادة الدول لمصلحة تلبية رغباتها وحل مشكلاتها الذاتية، عبر ملاحقة أعدائها أينما كانوا، غير عابئة بالمسرح الذي تدير مسرحيتها الهزلية المبكية على أرضه. فالمتابع البسيط لسياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية ولمواقفها السياسية وتحركاتها العسكرية على مدى السنوات العشرين الأخيرة يرى بوضوح أن واشنطن عوّدت العالم برمته على خلق «السابقات» وخاصة السلبية منها، إن لم نقل الكارثية، وما حرب العراق إلا «سابقة» موجعة في كيفية فبركة الحجج لغزو دولة ذات سيادة وإحكام السيطرة على مقدراتها السياسية والاقتصادية. «السابقة» هي خروج عن العرف، يتطور مع الممارسة لاحقاً ليصبح بذاته عرفاً، يعطي لواضعه، وربما أصدقائه فقط في غالب الأحيان الحق في تكراره، تماما كما «السابقات» الإسرائيلية في التعاطي مع الحق الفلسطيني وملاحقة رموز المقاومة الفلسطينية وتصفيتها في أي مكان، كما حدث مؤخراً في الإمارات وأوكرانيا ومن قبلها في تونس وغيرها. «السابقات» جزء من طريقة التعاطي الأمريكية مع الأوضاع و المشكلات الدولية التي يكاد أغلبها لا يخلو من أثر لأصابع أمريكية، فأزمة المنطقة المشتعلة والأعمال التخريبية في سورية وغيرها من الدول تطرح بإلحاح سؤالا عن دور الولاياتالمتحدةالأمريكية في العمليات الجارية ومدى ضلوعها في وضع «مقدمات» لزعزعة الاستقرار في المنطقة. تحليل عدد كبير من الأبحاث والمقالات والتقويمات والتصريحات التي أدلى ويدلي بها الخبراء والمحللون الدوليون يفضي إلى استنتاج بأن للولايات المتحدة رصيداً كبيراً في الخلافات القائمة منذ عشرات السنين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط على شكل حركات احتجاجية مناهضة للحكومات «خرجت في نهاية المطاف عن السيطرة» واكتسبت أشكالا عشوائية مدمرة. وهنا يرجع العديد من الخبراء السبب الرئيس للعمليات الهدامة في المنطقة إلى السياسة العدوانية التي تنتهجها واشنطن في «دمقرطة» البلدان العربية.. ولعل التحرك الأبرز لواشنطن يتجلى هنا فيما يعرف بدبلوماسية «التغيير» الرامية إلى تشكيل طبقة جماهيرية كبيرة العدد من مواطني دول المنطقة ترتكز إلى القيم الأمريكية، وقادرة على تأمين التأثير المطلوب في الأوساط السياسية الناشئة في بلدانهم. وتفيد بعض المصادر بأن الولاياتالمتحدة رصدت لتنفيذ هذه المهمة موارد مالية ضخمة، ووضعت أكثر من 300 برنامج مختلف في مجالات التعليم والثقافة والتنوير والدعاية الإعلامية جُمعت كلها في مشروع واسع النطاق حمل اسم «مبادرة الشراكة الشرق أوسطية»، وقد أوكلت مهمة التنسيق في إطار هذا المشروع لوزارة الخارجية الأمريكية والمكتب الإقليمي الموجود في تونس. أما هدف هذا المشروع الرئيس فهو تنفيذ الإصلاحات «الديمقراطية» في دول المنطقة عن طريق: تغيير النظم السياسية عبر إنشاء ودعم أحزاب المعارضة، تجهيز ساسة بدلاء، خلق وسط شبابي موال وذي توجهات ديمقراطية، إعادة خلق المناخ الاقتصادي عبر طبقة من رجال الأعمال والمحامين النافذين ذوي التعليم والميول الغربية، وكذلك تغيير التشريعات القومية بما يلبي مصالح الولاياتالمتحدة، وتغيير النظم التعليمية عن طريق نشر وترويج برامج التعليم الأمريكية ونشر المواد الدراسية الضرورية لذلك في المعاهد التعليمية المحلية، وفتح معاهدها التعليمية وإفساح المجال للنساء العربيات للالتحاق بها. وتشير الدراسات والتقارير إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تركز في الوقت الراهن على الأوساط محدودة الدخل من السكان، وهي طبقة يسميها الأميركيون «شباب مجموعة الخطر» الشباب المحرومين، وهي مجموعة تشمل الطلاب وتلاميذ المدارس الذين يجري استقطابهم عبر افتتاح دورات لتعلم اللغة الانكليزية وإقامة معسكرات صيفية متخصصة لهم، وغير ذلك من الأساليب. جميع هؤلاء يتم تدريسهم بشكل متوال «مبادئ الديمقراطية» وأساليب خوض الصراع السياسي والتقنيات السياسية. وفي نطاق «المقدمات» الأميركية أيضا للسيطرة على أوضاع المنطقة تقدم واشنطن الدعم للمعارضة والمنظمات المناهضة للحكومات بشكل فعال، كما يتم تحضير مراقبين للانتخابات وصحفيين موالين وغير ذلك من الأساليب. بموازاة ذلك تولي واشنطن اهتماما خاصا للنقابات والمنظمات الأهلية، التي من المفترض أن تغدو عند الضرورة مراكز ليس فقط لاستقطاب الجماهير الشعبية بل وتنسيق التحركات المناهضة للأنظمة. إضافة إلى ذلك تحظى النساء العربيات، خاصة من عائلات الأسر الحاكمة بالاهتمام خاص من الحكومة الأمريكية لما لهن من تأثير لاحقاً على رجالهن (أزواجهن، إخوتهن، آبائهن) الذين يمسكون بمقاليد السلطة واقعيا. مثل هذه «السابقات» و«المقدمات» الأمريكية الصنع لم تفضِ إلى «تحولات ديمقراطية»، بل إلى فوضى عامة عارمة أنتجت تربة خصبة لنمو الجريمة والإرهاب الذي سيغدو بدوره مستقبلا ذريعةً جديدة «لسابقة» أمريكية مجهولة الأبعاد. المصدر: تشرين السورية 16/5/2011