هكذا دائماً تبدو الأمور بين أنجمينا والخرطوم، تأتي أنجمينا بوجه رقيق الملامح، وكلمات، وأحاديث أكثر رقة، وتصدقها أذن الخرطوم، ويتبادل الطرفان الكلمات والنوايا الحسنة، ويؤمنان على الاتفاقات السابقة، ويؤكدان على العزم على ترسيخ هذه الاتفاقات، ولكن ما أن تدير تشاد ظهرها للخرطوم مولية وجهها باتجاه الغرب، حتى تعود الأمور إلى ذات المربع. وبالطبع ليس هذا بمثابة تشاؤم، ولا هو تقليل من شأن اللقاء السوداني التشادي الأخير الذي شهدت وقائعه الخرطوم، ولكنها قراءة موضوعية لطبيعة معطيات علاقات البلدين، ذلك أن أنجمينا لديها عقدة سياسية صعبة وعصية على الحل مهما اجتهد السودان في حلها. هذه العقدة ترتبط بحدودها الشرقية المتاخمة للسودان، حيث يتواجد حملة السلاح التشاديين الطامحين في إسقاط نظام الرئيس دبي، وعملية اسقاط الأنظمة في تشاد – كما يحفل بذلك سجل السياسة والتاريخ في هذا البلد المنكود، عملية لا تتم لأسباب بعينها، ولا تحكمها قواعد سياسية معينة، فهو تداول عنيف للسلطة. وطوال التاريخ التشادي منذ نيل الاستقلال فإن مجموعة مسلحة تستخدم سيارات وأسلحة وتستولى على السلطة ثم تنهض بعد سنتين أو ثلاث مجموعة أخرى وتفعل ذات الشئ، حتى يمكن القول ان هذا الأمر بات أمر اعتيادياً ومألوفاً في تشاد. الرئيس دبي نفسه وصل الى القصر الرئاسي في تشاد عبر هذا الطريق ووجد دعماً من الخرطوم وكانت الاستراتيجية، هي العمل على تأمين حدود البلدين وانشاء قدر من النظام السياسي القوي والمنفتح في أنجمينا يمنع أو يضع حد لوتيرة الاحتراب الدائرة هناك بما يجعل حدود السودان بالمقابل هادئة. نظام الرئيس دبي استهان كل الاستهانة بهذه الاستراتيجية وساوره اعتقاد أن بامكانه – معتمداً على فرنسا – أن يحقق حماية لنفسه، وفي الوقت نفسه يزعزع أمن السودان بقدر ما يستطيع حتى تبتعد النار عن حدوده. ولهذا فإن ثقة نظام الرئيس دبي في فرنسا ودول كبرى أخرى أصبحت أقوى من ثقته في جاره الاستراتيجي الشقيق السودان لأنه اعتقد – دون أدلة مقنعة – أن جاره السودان يزعزع أمنه ويريد اسقاط نظامه وهو أمر لا يمكن لعاقل أن يصدّقه لأن السؤال الذي يفرض نفسه سيكون ما هي الثمرة الناضجة التي تستحق العناء في قيام السودان بتغيير نظام الرئيس دبي، ما هي بدائله وخياراته؟ والاجابة بسيطة لا بدائل ولا خيار سوى اندلاع المزيد من العنف. لكل ذلك فإن الأزمة في الواقع هي أزمة النظام التشادي، سواء في شكوكه غير المنطقية التي يصعب إقتلاعها من ذهنه، أو في حساباته وتقديراته السياسية الخاطئة بشأن إمكانية لعب دور تعززه حليفته في فرنسا. وعلى أية حال فإن أنجمينا فيما يبدو تستشعر بداية استقرار السودان، حيث الانتخابات على الأبواب ومن الممكن أن تحصل الحكومة القائمة على شرعية أقوى في ظل انعدام هذه الشرعية في تشاد، ومن الممكن أيضاً أن تهدأ الأمور وتنقضي تماماً في دارفور عقب التوصل الى اتفاق سلام. إن عودة تشاد للسودان في الواقع هي محاولة منها لتفادي ورطة يحملها المستقبل القريب!!