تحليل سياسي الحكومة السودانية شأنها شأن حكومات عديدة حول العالم عانت من الظلم والغطرسة الأمريكية ، لديها ادارك تام بطبيعة التفكير الأمريكية و ثقافة الصفقات ( Deals ) فالثقافة الأمريكية لكونها بحكم نشأة الدولة فى أمريكا المتجردة من القيم و التقاليد تقوم على مبدأ المقايضة والصفقات . ولهذا وكما رأينا فى زيارة وفد مجلس الأمن الى الخرطوم مؤخراً ، فان مندوبة الولاياتالمتحدة السيدة رايس سارعت لعرض (صفقة أمريكية) على الخرطوم مفادها تطبيع العلاقات بين الطرفين فى مقابل (إطلاق سراح أبيي) ! وكانت المفارقة هنا مدهشة تماماً لكل المراقبين لأن أبيي ليست منطقة أمريكية ،هي ارض سودانية ، فما شأن واشنطن بمقايضة ارض سودانية؟ وحتى لو قلنا إنها تقايض لصاح حليفتها الحركة الشعبية باعتبار ان جوبا و واشنطن مصالحهما واحدة وعلاقاتهما أوثق، فما هو الثمن؟ الثمن هو علاقات طبيعية مع واشنطن وكأن هذه العلاقات (كرت بلانش) للسودان ليدخل النادي العالمي وجنان اليانكي الوارفة الظلال . إن السودان – كما رآه الجميع ورأته واشنطن نفسها- عاش لما يجاوز العقدين من الزمان بدون علاقات حسنة مع واشنطن ولم يترنح أو يسقط ، أو يعجز عن المسير ، فهل تبدو حاجته الآن شديدة الإلحاح لتطبيع علاقاته مع واشنطن لدرجة تقديم أبيي على طبق من ذهب قرباناً لهذه العلاقة؟ إن مجرد تقديم هذه الصفقة – على الهواء الطلق – هو استخفاف متعمد من جانب واشنطن بالعقل السوداني وعدم احترام للثقافة السودانية القائمة على القيم و المبادئ الإنسانية المتعارف عليها لا على ثقافة الصفقات . من جانب آخر ألا يدل هذا العرض على ان واشنطن مدركة لأهمية الشمال فى المنطقة و تود شراءها؟ فإذا كان الافتراض ان أبيي جنوبية والمطلوب فقط إعادتها للجنوب او كان الافتراض ان المنطقة متنازع عليها و يجب حسم النزاع عن طريق الاستفتاء ، فما الحاجة التى تدعو واشنطن للمسارعة بمقايضة ساذجة كهذه؟ إن اضطراباً بدرجة ما قد دهم واشنطنوجوبا معاً إذ من المؤكد أنهما وضعا خطة لانتزاع أبيي والمشكلة ان الخطة فيما يبدو كانت تتكون من مراحل وسيناريوهات و لكن الخرطوم قطعت هذه المراحل واختزلتها فى الموقف الواقعي الماثل ، ففي النهاية فان السياسة هى فن الممكن و هى المهارة واستباق خطوات الخصم بنقلات ذكية . إن من الممكن ان يتخذ مجلس الأمن ما يشاء من قرارات و لكن ستكون المشكلة ان الخرطوم (معها الحق) والذي بحوزته الحق من المستحيل تماماً أن تلحق به هزيمة أو يضطر للتراجع مهما كانت التحديات !