مهما كان قدر حسن النية الذى تتحلّى به الحكومة السودانية فى أيّ شأن يتصل بخلافاتها مع الحكومة الجنوبية فإن من المفروغ منه تماماً أن تحركات كلٍ من المبعوث الأمريكي الخاص برنستون ليمان وباقان أموم، أمين عام الحركة الشعبية ورئيس وفدها المفاوض تستحق النظر اليها بحذر بالغ للغاية. فقد كان ملاحظاً أن ليمان حرص فى زيارته الأخيرة هذه -وعلى غير العادة- على إلتقاء (أكبر) عدد من المسئولين السودانيين والتباحث معهم فى لقاءات مفتوحة، وكان الأكثر لفتاً للأنظار لقاء ليمان بقيادات المسيرية والإصغاء اليهم جيداً. كان من الملاحظ أيضاً أن ليمان أدلى بتصريحات متوازنة بعض الشيء بدا فيها كمن يقود وساطة أمريكية جادة وغير منحازة. كما أن التوقيت نفسه الذى يقود فيه ليمان تحركاته بالنظر لما يسمى فى التقاليد السياسية الأمريكية بأنه التوقيت الذى لا يتقرّر فيه شي، بإعتباره توقيتاً للخروج والدخول؛ حيث تخرج إدارة أمريكية وتدخل أخرى، حتى ولو كان الرئيس هو الرئيس بإعتباره قد حاز على دورة جديدة ثانية، إذ من المؤكد ان السياسات ستختلف قليلاً والرؤى ستتغيّر بدرجة ما والأفكار ما تزال فى طور التشكُّل والتبلور. فالإدارات الأمريكية فى الغالب هى عملية إحلال وإبدال واسعة النطاق فى الوجوه والعقول والأشخاص، وكما أسلفنا حتى ولو كان الرئيس ونائبه هم أنفسهم وتمت إعادة إنتخابهم من جديد، فتلك طبيعة السياسة الأمريكية منذ أن أرسى لبناتها الأولى الآباء والمؤسسين. حضور ليمان فى ظروف كهذه يصعب إعتباره ضمن سياق تحرك عملي جاد يهدف الى حل الأزمة. الأرجح أن الرجل يتلمّس إمكانية وجود ثغرة ما على جدار الأزمة تصلح لعمليات مقايضة وصفقات بين الدولتين. ذلك أن الخلاف الجوهريّ المطروح حالياً بين جوباوالخرطوم هو إنفاذ إتفاقية التعاون المشترك فى بنديها، الأمني والنفطي، ولم يكن الأمر ليحتاج الى تدخل واشنطن أصلاً إذا ما أحسنت جوبا النوايا وعملت على إنفاذ بند الترتيبات الأمنية كأول بند جرى الاتفاق بشأنه فى جوبا بغية إنفاذه. لو أنَّ ليمان عمل على تليين الموقف الجنوبي بضرورة حل أزمة الملف الأمني قبل الخوض فى ملف النفط لكانت العقدة قد إنتهت ولتبقى فقط التفكير فى كيفية إيجاد حل لنزاع أبيي إستناداً على الإرادة السياسية الجيّدة التى ستتوفر من جراء إنفاذ البندين الأمني والنفطي. ومن المؤكد أن ليمان لا يجهل أهمية الملف الأمني كمفتاح لمجمل الأزمة، كما لا يجهل ضرورات التوافق وبناء الثقة فى البنود المتفق عليها، ومن ثم تأتي لاحقاً البنود المختلف حولها كنزاع أبيي. وكلنا رأينا ليمان وهو يخلط عامداً النزاع حول بنود اتفاقية التعاون المشترك مع البند الخاص بأبيي بما يشير الى ان الرجل – بعقليته الأمريكية التى تنزع عادةً وتميل نحو الصفقات – يفكر فى صمت وفى مكر وخُبث شديدَين فى صفقة ساخنة وخطيرة للغاية. باقان أموم من الجانب الآخر لم يُعرَف عنه حسن النية والبراءة فى التحركات والمواقف ولكونه رجل غير تنفيذي ذو عقلية أقرب الى العقلية الميكافللية، يمكن أن يلعب دوراً تمويهياً، إذ من المؤكد هنا أن الخرطوم تستشعر شعوراً إيجابياً حيال قيام الرجل - فى ظروف كهذه - بزيارتها، ففي ذلك إشارة الى ان الجانب الجنوبي لديه مخاوفه من إنهيار الاتفاق أو هكذا قد تبدو الزيارة فى الذهن الحكومي السوداني، ولكن أموم دائماً يأتي بما هو غير متوقع، وبالطبع لسنا هنا بصدد التكهُّن بما قد يأتي أو أتى به وما وراء ذلك، ولكن يكفي أن نشير هنا الى ان أموم دائماً يلعب بتعليمات المُدرِّب السياسي الموجود هناك فى نيويورك، ونعني تحديداً السيدة سوزان رايس مندوبة واشنطن فى مجلس الأمن، إذ لن يكون للمبعوث الخاص ليمان فى الخرطوم من جهد بعيداً عن جهد موازي للسيدة رايس، فإذا قرأنا تحركات ليمان وبجانبها تحركات أموم المدفوعة من رايس لجازَ لنا أن نفهم جانباً من الصفقة التى تعدّ لها واشنطن إعداداً هادئاً بدأب ومثابرة شديدَين!