يوم استثنائي في تاريخ السودان الحديث، ذلك الذي وطأت فيه أقدام الراحل جون قرنق أرض الساحة الخضراء بالخرطوم، بعد سنين جدباء وتعيسة طويت صفحاتها بعد طول عناء، ولا أحد راغب في الرجوع إليها. لم يكن الراحل جون قرنق يمثل حلماً لإنسان الجنوب، بل بذات القدر حلماً وردياً لإنسان الشمال الذي تطلع كثيراً إلى سودان آمن يسع الجميع، وانتظر طويلاً وفيما يبدو أن الطريق لا زال وعراً، فعندما جاء جون قرنق إلى القصر نائباً أول بذخت معه آمال الشعب السوداني بمختلف ألوان طيفه ودون استثناء، ذلك أن فكرة ومشروع جون قرنق لم تضع أولوياتها منطقة دون أخرى أو قبيلة دون أخرى، ولم تخضع فكرته لتلك الأنانية القاتمة التي تسيطر على الوطن الآن، وفكرة السلام الحق التي كان يحملها جون قرنق والتي كابد لأجلها سنين عددا لم يكن ليتوقع الجميع أن يكتب الله لها الرحيل قبل ان تري النوي، فبعد بزوغ ذلك الفجر بواحد وعشرين يوماً فقط رحل عنا جون قرنق وقبل أن يتنفس الصعداء من سنين الحرب. لكن يظل ذلك اليوم نموذجاً غير مشهود لالتفاف الجماهير حول قائدها وبثقة فاتت الحد المعقول، لكن عمر الفرح قصير . رحل جون قرنق لكن المتوقع وفق الطبيعي أن تجاهد الحركة الشعبية لفكرة ومشروع زعيمها، وعلى اقل تقدير هي الفكرة التي جمعت قيادات الحركة، وآمنت بها، وجعلت منها حركة شعبية بشمالها وجنوبها وكردفانها، لكن الذي يحدث الآن إنما هو نسف مخطط للفكرة، وجملة وتفضيلاًَ، وأن استثنينا تقرير المصير انفصالاً أو وحدة واحتكمنا فقط لصناديق الاقتراع بحساب انه خيار إنسان الجنوب وحقه المكفول له بواسطة اتفاقية السلام ذاتها .. رغم ذلك لم يكن من المتوقع أن تتبني الحركة الشعبية بعد الانفصال فكرة مغايرة تماماً، لأن الانفصال لا يعني نهاية الفكرة بأي حال، بل يمكن أن يعزز فكرة جون قرنق بمنهج يقتدي به العالم كله، أما الآن فالجميع يبكي الحركة الشعبية التي تركت السلام، واتجهت صوب الحرب وبكل ما أوتيت، وها هي تبيع علناً فكرة زعيمها جون قرنق الذي قاتل حتى مات لأجل السلام، وها هي تبيع أحلام إنسان الجنوب الذي اختار الانفصال كي يودع الحرب ويهنا كما يحق له، هذا والحركة الشعبية غير آبهة بما تفعله في الجنوب قبل الشمال، وان رجعنا قليلاً الى ما قبيل الانفصال فقد تبددت بعض المخاوف التي كانت ستنجم عن خيار الوحدة أن وقع، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال ورغم الفاجعة بانشطار الوطن الذي حدث في ظل السلام ولم يحدث في ظل الحرب الا أن الجميع بات مطمئنا الى حد ما كون الانفصال هو خيار الحركة الشعبية بعد رحيل زعيمها قبل أن يكون خيار إنسان الجنوب، لكن أتي يوم الفصل كما أرادت الحركة، واذا بها راغبة في عودة الحرب، وبغض النظر عن من البادئ ومن الظالم، فالحركة الشعبية علقت عليها آمال كبيرة ومن كل السودانيين، لكن لقد خذلتنا والله. نقلاً عن صحيفة التيار 12/6/2011م