ربما لم تأخذ الحكومة السودانية تصريحات أمين عام فرع الحركة الشعبية بالشمال ومرشحها الرئاسي السابق الأستاذ/ ياسر سعيد عرمان بإنشاء جنوب جغرافي جديد مأخذ الجد، حتى أظهرت أحداث جنوب كردفان المؤسفة ذلك الجنوب الجغرافي المشتعل على أسنة رماح الجيش الشعبي لتحرير السودان، إثر الانتخابات التكميلية التي شهدتها الولاية أخيراً، لتعود جبال النوبة إلى المربع الأول من الصراع المفضي لأوضاع إنسانية بائسة قوامها التشرد والخوف والتوجس من الجار البعيد والقريب، بعد أن أضحى الولاء الحزبي أو الانتماء السياسي تهمة توجب القتل والسحل في الشوارع، وعلى حد علمي لا توجد «أضان حمراء» في جنوب كردفان..!! واتهام الكومندا سليفا كير رئيس حكومة الجنوب وقائد الجيش الشعبي للقوات المسلحة بافتعال أزمة جنوب كردفان لطلبها خروج الجيش الشعبي إلى خارج حدود «56م» قبل التاسع من يوليو، وفق ما أقرَّته اتفاقية السلام الشامل من ترتيبات أمنية. ويبرز مدى المماطلة التي تبديها الحركة الشعبية في التعاطي مع قضايا الأمن والسلام، فبالرغم مما تزخر به القوات المسلحة السودانية من ضباط وجنود من جنوب السودان، إلا أنها أكملت انسحابها شمالاً في حين تتعلل الحركة بوجود قوات من جبال النوبة والنيل الأزرق ضمن قوات الجيش الشعبي لا تستطيع الحركة سحبها إلى الجنوب، مما يعني أنها تريد التنصل من مستحقات هؤلاء المحاربين في صفوفها، بعد أن أوصلوها لمبتغاها في فصل الجنوب، فلم تعد للحركة الشعبية حاجة لمثل هذه العناصر الشمالية التي ناضلت معها طوال السنوات الماضية، وعليها أن تشكل جنوبا متمردا جديدا في وجه الدولة، للوصول إلى اتفاق سلام يعيد قسمة السلطة والثروة، وإقامة ترتيبات أمنية لجيوش الجنوب الجغرافي تفضي إلى حكم ذاتي أو كنفدرالية تسوق إلى انفصال ولايات جديدة، أسوة بما أقدمت عليه الحركة الشعبية في الجنوب. وفي تقديري أن الأغلبية المطلقة من قيادات الحركة الشعبية تكن عداء شديداً للشمال بكافة مكوناته الجهوية والإثنية والسياسية، فبعض هؤلاء كان يتمنى الدخول للخرطوم غازياً، وطالب آخرون باعتذار تاريخي من كيان الأنصار وحزب الأمة عن تجاوزات الثورة المهدية في حق الجنوب، في حين لام البعض قادة الحركات الدارفورية المتمردة على مشاركتهم السابقة في قتال الجنوبيين، وبعد أن شارك بعض أبناء جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق في النضال مع الجنوبيين، ها هم يلقون «جزاء سنمار» من الحركة الشعبية، بتعريض مناطقهم لفظائع الحرب الأهلية، فسلام دولة الجنوب يقتضي إشعال الحرب في جنوب كردفان، ومن ثم تأمين حدود دولة الجنوب الشمالية بإشغال الشمال بحروبه..!! وتريد الحركة الشعبية إخلاء الجنوب ومنطقة أبيي من أي جندي شمالي، بينما لا تجد حرجاً في بقاء قواتها في الشمال تحت ذرائع شتى، وتطالب الحكومة الشمالية بالاعتراف بفرع الحركة الشعبية الشمالي باعتباره حزبا مسجلا في الخرطوم بينما ترفض أي وجود للمؤتمر الوطني أو الأحزاب الشمالية في الجنوب، وفي حين تنادي الحركة الشعبية بإعطاء الجنوبيين الجنسية المزدوجة رغم تصويت نسبة 99% منهم للانفصال ليتمتعوا بكافة حقوق المواطنة في الشمال فإنها ترفض أن تسحب منسوبي قواتها الشعبية جنوباً لأنهم من المنتمين لجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق بالشمال، فلا يجوز مساواة عيال النوبة والأنقسنا بالدينكا سادة الجنوب!! وبحلول التاسع من يوليو المقبل يصبح للجنوبيين وحلفائهم بالشمال دولة يرجو منظروها أن ترسخ الديمقراطية «كاملة الدسم» وتلتزم بشعارات «السودان الجديد» ورعاية دولة المواطنة ومواثيق حقوق الإنسان التي قد تستقطب العديد من أهل اليسار لواحة الديمقراطية الجديدة في أفريقيا !! أما في الشمال فيبدو أن ممارسات الحركة الشعبية ستقلص من مجالات المساومة والتسوية على القضايا العالقة، طالما لم تسحب الحركة الشعبية قواتها جنوب حدود 1956م، كما سحبت القوات المسلحة قواتها شمالاً، فلم يعد أمام الحركة من وسائل للضغط سوى استدعاء تدخلات المجتمع الدولي المنشغل بقضاياه الاقتصادية والاستراتجية الملحة، الأمر الذي سيضيق مساحات المناورة ويحجم خيارات أيتام الحركة الشعبية الشماليين بقايا التطرف اليساري ما بين الولاء للشمال أو لدولة الجنوب الوليدة، فما عاد الالتزام الوطني يقبل القسمة على اثنين في ظل الاستقطاب القائم، لاسيما بعد أن اختارت الحركة الشعبية الانفصال دون مشورة مناضليها الشماليين، أو طرح قضية الانفصال في الأروقة التنظيمية لاتخاذ قرار موحد بشأنها بحسب الأعراف الديمقراطية، وعلى المتباكين على التحوُّل الديمقراطي المطالبة بإخراج «تلفون كوكو» من سجون الحركة الشعبية!! نقلا عن صحيفة الصحافة السودانية 14/6/2011م