استمرأت حركات التمرد في جنوب السودان ابتزاز الحكومات الوطنية المتعاقبة بالخرطوم وتعودت على انتزاع ما تريده من خلال فوهة البندقية فتطورت المطالبة بالفدرالية (federation) والحكم الذاتي الإقليمي في إطار الدولة السودانية المتحدة إلى المناداة بحق تقرير المصير والاستقلال وهو ما تم وعد الجنوبيين به في بداية التسعينيات من القرن الماضي خلال مباحثات فرانكفورت بين د. علي الحاج ممثل الإنقاذ حينها وممثل الحركة الشعبية وقت ذاك د. لام أكول، وما لبث الوعد أن أصبح حقيقة عند المعارضة المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي في مقررات أسمراء للقضايا المصيرية عام 1995م، التي منحت الجنوبيين دولة علمانية في الشمال وحق تقرير المصير والاستقلال، وهو ذات الطرح الذي تلقفته اتفاقية الخرطوم للسلام من الداخل وشذ عنه برتوكول مشاكوس القاضي بقيام دولة بنظامين إسلامي في الشمال وعلماني في الجنوب والذي أفضى إلى انفصال الجنوب بعد ست سنوات من التوقيع على اتفاقية السلام الشامل وتكوين دولة الجنوب . أغرت مكاسب الجنوبيين في السلطة والثروة ثم الحصول على الاستقلال التام مناطق التهميش الأخرى بحمل السلاح للحصول على مكاسب سياسية عبر فوهة البندقية والتحق أبناء جبال النوبة وتلال الأنقسنا بالجيش الشعبي لتحرير السودان وتضامنت قوى الريف واليسار السوداني مع منفستو الحركة الشعبية وأطروحاتها العلمانية وجاء تمرد أبناء شرق السودان وحركات دارفور لتصب في تطويق المركز ومن ثم زحف الجبهات المسلحة على الخرطوم عبر تواطؤ من الطابور الخامس للمعارضة في أطراف العاصمة المثلثة وبمساندة إقليمية ودعم دولي من الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها الغربيين، وقد عملت حكومة الإنقاذ على تفتيت هذه الجبهات من خلال التفاوض المنفرد مع كل جبهة وأثنية معارضة ونجحت في إحداث الشرخ الكبير في التجمع الوطني المعارض الذي تبين أن مكوناته تستخدم بعضها البعض للوصول لأجنداتها الخاصة في ظل غياب الأجندة الوطنية المتماسكة في مثل تلك التحالفات العريضة ضعيفة البنية والتنظيم الأمر الذي عجل بنهاية التجمع الوطني الديمقراطي وبات أمره نسياً منسياً بعد التوقيع على اتفاقية القاهرة . بقيت بعض القضايا العالقة بين الشمال والجنوب والتي لم تحسمها المفاوضات بين الطرفين ممثلة في قضايا النفط والحدود والترتيبات الأمنية خاصة في المناطق الثلاث «ابيي، وجبال النوبة، وجنوب النيل الأزرق» وغيرها من قضايا المواطنة وتنظيم الحركة والتنقل لقبائل التماس الحدودي بين البلدين . . وترى الحركة الشعبية أن التصعيد العسكري وجر الخصم إلى الحرب كفيل بإرغام الشماليين على التفاوض والتسليم بما تريده الحركة المدعومة من الغرب المهيمن على قرار المجتمع الدولي ومع تقديم الكونجرس الأمريكي لقانون أمن وسلامة محاسبة السودان وتنصل إدارة البيت الأبيض من التزاماتها بالتطبيع مع الخرطوم شرط التوقيع على اتفاقيات السلام، حيث تعمل قوى الهيمنة الغربية على تأزيم الوضع الاقتصادي بتجفيف منابع الدعم العربي والإسراع بالخطى العملية الرامية لإسقاط نظام الإنقاذ، ويلاحظ مدى الإدانة الدولية لسيطرة الجيش السوداني على أبيي المتنازع عليها والتعجيل بالقرارات الأممية الصادرة بشأنها بينما يلف الصمت الدولي هجوم الجيش الشعبي على «هجليج» . . فمن المفارقات أن تنشر وسائل الإعلام ضمانات المتمردين السابقين لحكومة السودان بعدم تسليم الرئيس البشير للجنائية !! في الوقت الذي يعلن فيه الكومندا «سلفاكير» الحرب على الشماليين حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون في حين يترنم حلفاؤه بأمريكا وإسرائيل بمعزوفة الحقيبة المقتبسة بتصرف «يا جنوب يا مدلل . . كل ما أطراك بالدموع أتبلل « مع الاعتذار للأغنية الشهيرة .