لا يمكننا هجاء الديمقراطية بالمطلق واستعارة نقيضها بعد اختلاف معانيها وأشكال تأويلها وتطبيقها، أولا لأن تهريب المفاهيم خارج حدود قواميسنا قد يدفعنا للحاق بها، وبالتالي حدوث عملية انزلاق تدريجي لتاريخنا، وما ترتب عليها من مفارقات وتناقضات في تطبيقها، وحتى ما أفرزته من أيديولوجيا افقية وعمودية جعلت منها سلاحاً بلا غمدٍ، بحيث يمكنك استعارتها عند الحوار العائلي أو في الخطاب الشعبي، وحتى مبرراً للقتل العشوائي أيضاً، وهنا يمكننا تسميتها في حلتها الجديدة بالسيف الذي يأخذ شكل الناي، وهذا التوصيف قد يكون مشابها لما قاله كارل ماركس الذي كان يعلم أن الرأسمالية التي أصبح عمرها 150 عاما ستظل باقية، فكانت رؤيته أن 'الديمقراطية في جوهرها هي ديكتاتورية طبقة ' وبذات الوقت كان يرى أن الدولة لا يمكنها تطبيق الاشتراكية بالقوة. وعلينا ان نعلم جيدا أنه ليس كل ما يتبع مصطلح الديمقراطية يُعتبر ديمقراطياً، وليس بالضرورة أن يكون إضافة لحقيقتها ومعناها، فالديمقراطية الأثينية (ديمقراطية الكادحين والمنتجين) وديمقراطية روما (هيمنة الارستقراطية) أو الديمقراطية الليبرالية (الفصل بين الدولة والمجتمع المدني) لم يكن أي منها إضافة إلى المعنى الحقيقي للديمقراطية بل على العكس. واليوم يتفق الرأي العام الاقليمي على أن المطلب البرولوتاري الديمقراطي الشعبي هو اجتثاث عوامل الاستبداد والغطرسة من داخل اجهزة الدولة كاملة والحد من تقزيم المواطنة وتأطير سلطة الحاكم وتقليص نفوذه بمعزل عن أي مدرسة ديمقراطية بائسة نجدها في نفايات التاريخ. لقد مرّت الثورة الليبية وشعبها الذي أُهمل لفترة طويلة بظروف صعبة، ولولا التضامن الإقليمي المُخجل وتقديم شرعية لمقايضة الحرية الجزئية باحتلال غير عضوي واتخاذ مواقف عربية بائسة، لما تدخّل الغرب بالثورة الليبية وغيرها لخلق ما يُسمّى بالديمقراطية الجديدة، فالمشهد المؤلم الذي يجعلنا نعيد التمعّن في أصداء الثورات كلّها هو تقدير ليبيا للمواقف الغربية وقيامها برفع العلم الفرنسي وعلم كل دولة تعترف بالمجلس الانتقالي الليبي، وبعد ظهور فئة كبيرة من المتعلمين والمثقفين الليبيين في المنفى والمهجر الذين كانوا غائبين في النظام القديم وأصبحت لهم علاقات وطيدة مع الغرب، يدفعنا ذلك للبحث عن إجابة للتساؤل الأول، وهو هل سترث الثورة الليبية العلاقات الخارجية مع سيف الإسلام وهل تمكّن الغرب من رسم ملامح ليبيا القادمة؟ المشهد الثاني من هذه الكوميديا المؤلمة هو حديث السفير الأمريكي في صنعاء عن اليمن والثورة، أكثر من اليمنيين أنفسهم، والكل يعلم علاقته التي لا بأس بها مع الأجهزة الأمنية في ذلك البلد، رغم أن الشعب اليمني يتحدث شبابه كل يوم في منابر الإعلام انه لا يريد تبديل الرئيس برئيس آخر فقط ، إنما يريد بناء دولة ومؤسسات دولة غير تابعة للإدارة الأمريكية وخلق مجتمع على أساس المواطنة مع تأييد البعض للأجواء العشائرية وأخذها بعين الاعتبار، والبعض الآخر يريد مجتمعاً مدنياً ينظم نفسه في المرحلة القادمة كمجتمع وليس عشائر، وهذه خصوصية اليمن التي لا يسعني الوقت هنا للحديث عنها. ثالثاً: ان التعايش مع الطائفية في لبنان والاعتزاز بطريقة الحياة هذه أدت إلى تحالفات مع جهات خارجية عديدة بدءاً من سورية ومن ثم إيرانوالولاياتالمتحدة وانتهاء بإسرائيل، وهذه ديمقراطية نسبية في مفهومها الجديد، والامتداد الأمريكي في العراق هو ديمقراطية جديدة أيضا وأسلوب الحشد والتعبئة الذي تبنّاه النظام السوري لترهيب الناس من الخلافات الطائفية هو ديمقراطية نظام أيضاً. لقد قامت الولاياتالمتحدة بإعادة تعريف المصطلحات وتخزينها في ذاكرتنا الشعبية، بحيث تحوّل الاحتلال غير العضوي إلى مقاومة إرهاب وتحوّلت العولمة إلى امبريالية واحتلال، والأمركة إلى حداثة وتطوير أيضاً، اذ قامت الولاياتالمتحدة التي علينا الاعتراف بذكائها بالتركيز على مفهوم لا يحتاج لموطئ قدم، وصدقه مطلق في قواميسنا ومناهجنا الدراسية فاشتقت منه كلّ الرذائل التي مارستها فوق أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وأفغانستان والعراق، التي تقوم بها الآن على أرض ليبيا وغيرها... تماما مثل كعكة عيد الميلاد فلا أحد يكترث بطعمها بعد وضع الشموع فوقها ما دامت تُقدّم في مناسبة لا يرفضها أحد... إنها الكعكة الديمقراطية إن دخلت بيتاً حوّلته إلى غناء ورقص وفرح مُغطّى بالبياض، ومن يسأل من أيّ أرض جاءت هذه الغريبة... لكن تلك حكمتها وحكمة المحكوم بتقاليد الميلاد. على المحللين والإعلاميين والنقاد والأكاديميين والمفكرين وعلى الانتلجنسيا العربية في كل المجالات أن يعقدوا الندوات والنقاشات حول كل الخطابات التي تصدر عن الغرب عموماً وما تُسمى اسرائيل تحديداً لكي تكشف عن خفايا هذه الكلمات غير العزلاء وعلى القارئ والمشاهد أن يتحوّل من دور المتلقي إلى الناقد والمشارك أيضاً لأن المعبد باعتباره خير مكان للعبادة قد يكون أفضل مكان لنوم العابرين. وبعد سقوط أوّل نظامين فاسدين، على الزعماء أن يعلموا جيداً أن الشعوب ستُصعّد من أشكال وطرق الاحتجاج وستعمل على توسيع جغرافيتها المستقلّة في حال لم تلبّ الأنظمة طموحات الديمقراطية الحقيقية بمعناها الحقيقي، وعلى الشارع العربي أن يشهد هذا الانتقال الجدّي نحو الديمقراطية، وعلينا الا ننشغل بالثأرية والانتقام من الأنظمة السابقة بعد أن يأخذ القانون مجراه لأن الثورة الحقيقية هي التي تسعى لانصهار الشرخ في بنيتها للعمل على إعادة التئامه بطريقة أمتن مما كان عليه، وعندما قال أضخم عقل عربي في المنطقة الأستاذ محمد حسنين هيكل 'ليس علينا تعطيل المستقبل لتصفية حساباتنا مع الماضي' كان هذا القول من شخص عاش الديماغوجية المصرية في النظام القديم وقوله بمثابة دعوة للشعوب التي تعيد إنتاج نفسها ألا تلتفت لماضيها العكر خوفاً من امتداده لصفو المستقبل المشرق وذلك يشبه رثاء القرية لضحاياها الذين قدموا أنفسهم لتمدينها لكنّها أصرّت بقوة تاريخها أن تحافظ على ملامحها القروية. ' شاعر وكاتب من الأردن المصدر: القدس العربي 29/6/2011