ما وقع قد وقع، بعد أن وقعت الفأس في الرأس كما يقول المثل، ولم يعد ينفع البكاء على أطلال ما حدث، فالسودان العربي تقسم، وصار جنوبه دولة مستقلة . أجل، خرج جزء من أرض العرب من جغرافيتهم وتاريخهم، بعد مخاض عسير وثقيل ودامٍ، شارك في صناعته ما هب ودب من قوى إقليمية ودولية، بعضها جاهر بعدائه للسودان والعرب منذ طلقة التمرد الأولى قبل نحو ربع قرن، وبعضها غلف عداءه المسموم بمبادئ إنسانية وحقوقية، وبعضها كما الكيان الصهيوني اندس منذ اللحظة الأولى في ثنايا الأزمة الجنوبية متآمراً مكشوفاً مستهدفاً أمن الأمة العربية في عمقها الإفريقي متوخياً هدفاً واحداً ووحيداً هو إضعاف كل إمكانات وقدرات الأمة وتطويق مركزها وثقلها الاستراتيجي المتمثل بمصر . لنعترف أن المؤامرة نجحت، وسقطنا نحن العرب في امتحان إرادات جديد، لأننا لم نعرف كيف ندير معاركنا السياسية والدبلوماسية والعسكرية، ولا الوسائل التي نعالج بها قضايانا وأزماتنا الداخلية، وتركنا الغير يلعب لعبته على أرضنا، كما هي حالنا في كل التحديات والمؤامرات التي واجهتنا وتواجهنا . نعم، فقدنا جزءاً من أرضنا التي كنا نردد ببلاهة أنها سلة الغذاء العربي، ولم نفعل شيئاً لحماية هذه السلة، أو جعلها قادرة على إطعام بعض ملايين الجياع العرب، أو حتى إشباع السودانيين أنفسهم، لأننا أدرنا ظهرنا وتعامينا عما كان يجري هناك، وبدلاً من الاستثمار في هذه السلة، استثمرنا في سلال الآخرين حتى أتخمناها ذهباً وفضة وعملات ملونة باتت تضيق بها خزائن ومصارف الآخرين . من تكون هكذا حاله، عليه ألا يندم على اللبن المسكوب والأوطان التي تضيع أو تحتل، أو تتعرض لمطارق التهديد والوعيد والابتزاز والارتهان . من يهن يسهل الهوان عليه، هذا هو حال العرب بالنسبة إلى السودان وفلسطين والعراق وغيرها من أقطار العرب المبتلاة بالمحن والفتن، أو المتطلعة إلى حريتها وحقها في الحياة، حيث تطل أنياب الشر في بعض الساحات لابسة لباس الديمقراطية والحرية . جنوب السودان ليس حالة شاذة في تاريخ العرب، إنه جزء من مسلسل تراجيدي يحكي كيف نفرط بالحقوق والأوطان، وكيف نواجه التحديات بالتواكل والاستهتار، وكيف نصدق الوعود والتعهدات، ونراهن على الآخرين الذين يبيعوننا عند أول مفترق طريق، ونضع كل ما لدينا من حقوق وديعة عند لصوص التاريخ والجغرافيا معتمدين على “أخلاقهم ونزاهتهم" . بعد كل نكبة أو كارثة قومية نقف على الأطلال نلطم الصدور وننتحب، ونلوم الغير لأنه لم يقف معنا، ولا نسأل أنفسنا ونحاسبها على تقصيرها . في الحرب العالمية الأولى وقفنا مع الحلفاء بعدما وعدونا بالحرية والوحدة العربية، فكان الجزاء سايكس بيكو والتقسيم ووعد بلفور الذي أنشأ الكيان الصهيوني السرطاني الذي أنتج كارثة فلسطين وكوارث التوسع والاستيطان المتواصلة والممتدة . بعد حرب أكتوبر ،1973 تم التوقيع على اتفاقات كامب ديفيد لأن “العزيز" كيسنجر وعد بالسلام وانهار العسل واللبن مع اعتباره الساحر الخارق الذي يمتلك 99 في المئة من أوراق اللعبة، وفي مطلع تسعينات القرن الماضي كان “مؤتمر مدريد" الذي سوّقوه باعتباره الرجاء والأمل . . ثم حلت كارثة احتلال العراق في 2003 . . .وماذا عن وعود “الدولة" و"الدولتين" التي صدقناها ومازلنا نصدقها . . وماذا عن غيرها من مصائب وكوارث كنا ومازلنا شهوداً عليها في مشرق الوطن العربي ومغربه . في جنوب السودان نحصد ما زرعناه . . المهم أن نتعلم درس ما جرى ونعرف كيف ندير علاقاتنا مع “الدولة الجديدة" قبل أن تسقط في يد “إسرائيل" ثم نعض على النواجذ أسفاً وندماً . المصدر: الخليج 14/7/2011