شهد السودان خلال الفترة الماضية أحداثاً هامَّة وعديدة لعلَّ أبرزها انفصال جنوبه وتكوينه لدولته الوليدة والتداعيات أو الانعكاسات المُترتِّبة على هذا الحدث، وما دار حوله من جدلٍ كثيفٍ في وسائل الإعلام المُختلفة داخل وخارج السودان، وتبارى الجميع – كلٌ في مجاله واختصاصه ومنظوره – في طرح رُؤيته، ما بين التأييد المُطلق إلى التحفُّظ انتهاءً بالرفض. والشاهد لما جرى من جدلٍ واسع بهذا الخصوص، يلحظ – وبوضوح – أنَّه انحصر على ما قد يترتَّب على هذه الخطوة أو الحدث في الصعيدين السياسي والاقتصادي بنحوٍ خاص، حتَّى وإن كانت هناك ثمة آراء تتعلَّق بالنسيج الاجتماعي والإرث الثقافي وما شابه، إلا أنَّها كانت في إطارٍ ضيِّق ومحدودة مُقارنةً بالصعيدين الاقتصادي والسياسي. ومع إقرارنا بأهمِّية هذا الحدث وآثاره في الجوانب آنفة الذكر، إلا أنَّ الأهم بالنسبة لكل عاقل وذي بصيرة هو ماذا بشأن ما تبقى من السودان؟ وكيفية بناء دولة مدنية حضارية نُهيئ لها عناصر وأدوات الاستدامة التنموية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. فهذا هو التحدِّي الأكبر، وليس من الحكمة الوقوف في محطة الجنوب الذي أصبح دولة مستقلَّة وذات خصوصية. سيقول قائل وماذا بشأن المُناوشات التي من المُتوقَّع أن يفتعلها الجنوب مع الشمال (أي الدولتين)؟ ثم ماذا بشأن جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي؟ ويجب ألا ننسى مأساة دارفور وووووو غيرها!! نقول هذا جوهر الموضوع الذي يستوجب التركيز عليه، ولكن التركيز يكون على المُعالجات وليس الوصف!! جميعنا نعرف هذه المشاكل ولكن ما الذي يُمكن تقديمه أو طرحه من أفكار وأعمال لتجاوُزها بشكلٍ ناجع وإيجابي؟ فبالنظر لما يجري من أطروحات على الساحة السودانية بهذا الخصوص – بغض النظر عمَّا إذا كانت رسمية أي حكومية أو رأي عام في وسائل الإعلام المُختلفة أو حتى في مجالس الأُنس – نجدها جميعاً تصف وتُفسِّر تلك المشاكل دون حلول موضوعية مُستديمة، وإن كانت ثمَّة حلول فهي إمَّا عنيفة تميل لاستخدام القوة أو مُستهلكة لم تُجد نفعاً في تجاوُز مشكلة الجنوب التي قضينا فيها فترة انتقالية عقب اتفاقية نيفاشا امتدت لست سنوات بالتمام والكمال، ولم تنجح هذه الأساليب أيضاً في حسم مُشكلة دارفور وانتهت اتفاقية أبوجا إلى خروج الفصيل الدارفوري المُوقِّع عليها مع الحكومة ورجوعه للحلول العسكرية، مما يعني – ضمناً – عدم إتباع تلك الأساليب مرَّةً ثانية لعدم نجاعتها في الوصول لحلول معقولة وحكيمة وأسفرت عن تقسيم السودان لدولتين وترسيخ ثقافة التمرُّد والخروج على الدولة وتعميق الأطماع الجهوية والقبلية والحزبية عبر المزيد من المطالب المُتمثِّلة في المناصب الدستورية (اتحادية كانت أو ولائية)، وبالتالي الإثقال على الدولة ومُوازنتها العامَّة وهكذا ظللنا في السودان نحيا في دائرة مُفرغة وظلَّت جراحاتنا ساخنة ومُلتهبة، وتزداد سوءاً باضطراد وبإيقاعٍ سريع. وهذا الواقع يُحتِّم علينا جميعاً، التفكير والبحث عن حلول وأساليب أخرى بعدما فشلت المُحاولات السابقة، بدايةً بالخطاب السياسي انتهاءً بأسلوب التفكير والتنفيذ للسياسات والإجراءات التي يُمكن طرحها للمُعالجة.. هذا إذا أردنا الحفاظ على السودان واستدامة سلامه وأمنه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. مُؤخَّراً وبعد جهدٍ جهيد تمكَّنت الحكومة وإحدى الحركات المُسلَّحة وللدقَّة إحدى الفصائل الدارفورية من توقيع اتفاق إطاري عُرف باتفاق الدوحة، وبقدر ما وجد هذا الاتفاق من قبول واجهته موجة رفض واسعة أو فلنقل تعنُّت من بعض الفصائل الدارفورية الأخرى والتي لا يجب إطلاقاً التقليل من شأنها، وبدأت الأصوات ترتفع ببعض المطالب التي احتواها الاتفاق كمطالبة الفصيل الرئيس المُوقِّع على الاتفاق مع الحكومة بمنصب نائب الرئيس واستنكار الجانب الحكومي لهذا المطلب وتضارُب التصريحات الرسمية وغيرها بشأن احتواء الاتفاق على هذا المطلب من عدمه، ثم مُطالبة بقية الفصائل بمطالب أخرى غير المُضمَّنة في الاتفاق علاوة على ما يجري في النيل الأزرق وجنوب كردفان التي لديها مطالب أخرى تختلف عن مطالب حركات دارفور، فضلاً عن الشرق الذي يحيا حالة تململ وتتناقل المجالس العامَّة والخاصَّة أقاويلاً مُختلفة ومُخيفة بشأنه، وجميعها تشيرُ إلى توقُّعات غير مُبشِّرة بسودانٍ مُستقر في المنظور القريب، وبالتالي تنمية شاملة ومُتوازنة في ما تبقَّى منه وترقية مُستوى الحياة! حيث لا تزال ثقافة المطالب الجهوية والقبلية والتوزيع الإقليمي للمناصب هي السائدة، وهي لم تُجد نفعاً بل جلبت متاعب كثيرة للسودان (الدولة) ومُواطنيه وانعكست سلباً على مسيرة التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي والرفاهية الاجتماعية، والأهم من ذلك أنَّها لم تُحقِّق أياً من أهدافها بل العكس تماماً ومع ذلك لا يزال التركيز عليها ماثلاً. بيد أنَّ الظروف الاستثنائية الحالية – غير المُواتية – التي يحياها السودان تتطلَّب البحث عن إجراءات بديلة تكون أكثر فاعلية ومُواءمة مع خصوصية الظرف ومُتطلَّبات المرحلة ومُعطياتها المُختلفة، حتَّى وإن خالفت هوى ومصالح البعض، إلا أنَّ ما يفرض تجاوُز هذه الأهواء والمصالح الفردية الضيقة أنَّ الهدف الأساسي سامي ورفيع وهو الحفاظ على ما تبقَّى من السودان. في ضوء ما جرى، يبقى خيار إنشاء مجلس للسيادة – على غرار ما حدث في السودان عقب الاستقلال مُنتصف خمسينيات القرن الماضي – هو الخيار الأنسب والأفضل، وهو خيارٌ يفرض نفسه بقوة على الساحة بعدما أخفقت جميع المُعالجات السابقة في كبح جماح دعوات التهميش والتمرُّد والخروج على الدولة وإيقاف النزاعات وحركة النزوح وحمَّامات الدم المُترتِّبة على ذلك. ويُقترح أن يتشكَّل هذا المجلس من ثماني أعضاء من مُختلف مناطق السودان الرئيسة، ويقوم أبناء الإقليم المعني باختيار مُمثِّلهم بأنفسهم وبكل شفافية وحُرِّية، ورُبَّما يكون أفضل إن كانوا من الشيوخ أي الكبار لضمان المزيد من الرضا والقبول ومُعالجة المشاكل والقضايا الشائكة، على أن يقوم أعضاء هذا المجلس باختيار رئيس بالاتفاق فيما بينهم، ليحكُم المجلس السودان لفترةٍ انتقاليةٍ بالتنسيق مع رئيس الجُمهُورية لحين انتهاء ولايته الحالية، ويجري في نهايتها التأمين على استمرار عضو المجلس المعني أو تغييره تبعاً لرغبة مُواطني إقليمه عبر الانتخاب المُباشر (حاله كحال رئيس الجُمهُورية وأعضاء المجلس الوطني أو النيابي)، إلا أنَّ الفارق يتمثَّل في أن أعضاء مجلس السيادة يُمثِّلون مناطق مُعيَّنة ولابد أن يكون العُضو من المنطقة أو الإقليم المعني بغض النظر عن حزبه أو اتجاهه السياسي وبحيث يتحمَّل أهل المنطقة نتيجة اختيارهم له، بينما يتنافس في عُضوية المجلس الوطني أو النيابي مُختلف الأطياف ولا يُشترط أن يكون المُرشَّح من منطقة بعينها. كما يقوم المجلس السيادي وبالتعاوُن والتنسيق مع رئيس الجُمهُورية بتشكيل الحكومة الاتحادية من وزراء وولاة مع تخفيض وتحجيم الجهاز الإداري للدولة بتقليل عدد الوزارات (دمج وإلغاء وغيرها) والولايات (8 ولايات بعدد أعضاء المجلس السيادي)، هذا بالإضافة إلى الإشراف الكامل على كافة مراحل إعداد الدستور الدائم للسودان ثمَّ إجراء الانتخابات العامَّة وفقاً لهذه المُعطيات. وهذا الطرح سيُجنِّب السودان المزيد من صور وأشكال الدمار ويُوقف – وبشكلٍ نهائي – الجدل الدائر خلف مفهوم التهميش وغيره، وسيُساهم في وأد بذور التمرُّد في مهدها، حيث ستنتفي فكرة التهميش المرفوعة من قبل العديدين عبر وجود تمثيل دائم لكل إقليم في المجلس السيادي المُكوَّن من أعضاء ينتسبون لأقاليم السودان المُختلفة، والذين سيعكسون مشاكل مناطقهم ويُشاركون بفعالية في مُعالجتها وحكم الدولة. وبقدر ما في هذا الخيار من حلولٍ ممتازة وقاطعة لمعضلاتٍ وقضايا شائكة وبالغة التعقيد، يبقى عُنصُر الشفافية وعدم العصبية الحزبية أو القبلية والجهوية في اختيار أعضاء المجلس هي العامل الأهم بل محور ارتكاز نجاحه وبلوغه لغاياته المرجوة، وهو أفضل عن الدعوات المُنادية بحكومة قومية مُكوَّنة من القوى السياسية والحزبية القائمة (حتى وإن كان طرحاً مقبولاً وأحد الحلول المُساعدة لتجاوز محن السودان)، حيث تعتمد فكرة مجلس السيادة على اختيار قيادات إقليمية أهلية تجد القبول والرضا والاحترام في مناطقها (أصحاب الوَجْعَة) مما يُعزِّز من قدرتها على إنفاذ قرارات وتوصيات المجلس السيادي في مناطقهم مُستقبلاً، بينما الحكومة القومية ترتكز على توزيع أدوات السلطة بين الأحزاب التي يسعى كلٍ منها لنيل أكبر مكاسب مُمكنة دونما علاجٍ فعليٍ لمشاكل السودان التي أضحت مُستعصية أو مصلحة مُواطنيه فتركيز الأحزاب أساساً يكون على مصالحها ومصالح مُنتسبيها كما أثبتت تجارُبنا المُختلفة، ولا نحسب بأنَّ السودان سيتمكَّن من تجاوُز عقباته الماثلة بسهولة إلا إذا توفَّرت الإرادة السياسية الحقيقية والروح الوطنية الصادقة والله من وراء القصد على أمل استكمال بقية الحديث في هذا الجانب إذا كان في العمر بقية. نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 2/8/2011م