كادوقلي: فتح الرحمن شبارقة في جنوب كردفان الأيام الفائتة، ووسط أنباء الرصاص والحريق والغدر الذى وصل هناك حد إنقضاض قوات الحركة على المكون الوطني في القوات المشتركة والشرطة المدمجة بدم بارد، كنت أبحث وقتها عن شىء يستحق الذكر، ويبرز الوجه الأخلاقي للحرب، إذا كانت للحرب وجه أخلاقى أصلاً غير وجهها الكالح. فالقصص التي تفوح منها رائحة البارود بعد تمرد الحركة الشعبية بجنوب كردفان، تخلف في دواخل الكثيرين حالة من الإحتقان، وتعيدهم إلى أيام كانوا فيها مشاريع محتملة لقتلى (سمبلا) ربما برصاصات قاصدة من أحد القناصين الذين إنتشروا على أسطح المباني بكادوقلى على أيام الأحداث. المفارقة، أنه، ورغم ما فعلته الحرب من دمار وخراب هناك، إلا أن يدها لم تمتد لأخلاق الكثيرين رغم إمتداد ألسنة النيران تجاههم. فالاخلاق على أيام الحرب، هي أكثر ما يترك أثراً في نفوس الناس، لأنه كما يقولون: (اعظم العدل هو العدل مع عدوك). فالتعامل الإنساني الراقي الذي يعلى من قيم الرحمة بالضعيف والتسامح مع الآخر، بات عملة نادرة في أيام السلم، فكيف الحال عندما تكون هنالك حرب كتلك التي -لاتزال- مستمرة في البرام وهيبان وأم دورين؟ العميد مهنا العميد مهنا بشير كان، قائد ثاني القوات المشتركة بولاية جنوب كردفان عن جانب الحركة الشعبية، وأحد ضباط الجيش الشعبي الأكفاء، كانت قضية الأمن تعنى له الكثير. مهن، عضو في لجنة الأمن بالولاية، وفي بداية الأحداث، قام عبر لجنة الأمن بجهود غير منكورة في إحتواء الأحداث وتطويقها. فقد كان واضحاً أنه لم يتم تنويره منذ البداية بالنية المبيتة لإشعال الأوضاع هناك. كان العميد مهنا بمنزل مولانا أحمد هارون والي ولاية جنوب كردفان عندما أخذ الهجوم ملامح حرب واضحة، بينما كان مهنا حتى تلك اللحظة يبذل في محاولات السيطرة على الأمور من داخل بيت مولانا هارون لكن المخطط كان أكبر من قدراته على الإحتواء. فجأة، وجد مهنا نفسه في موقف لا يحسد عليه، فهو في بيت والى الولاية ورئيس اللجنة الأمنية الذي أصبح واحداً من أهداف رفاقه في الحركة الذين كانوا يطلقون الرصاص في كل إتجاه لخلق فوضى أمنية تمهد لإحتلال مدينة كادوقلى وإعلان حكومة جديدة وإنشاء وضع غاية في التعقيد بالتزامن مع إحتلال العديد من المدن الأخرى مثل تلودى ولقاوة والدلنج. إستغلال ممكن وجود العميد مهنا في ذلك الوقت ببيت مولانا بينما رفاقه في الخارج يطلقون الرصاص، أوجد سانحة جيدة كان من الممكن أن يستغلها مولانا في إستمالة مهنا إلى صفه، ولن تكون أمامه وقتها خيارات أخرى غير القبول، وإلا حدث له، ما أحدثه جنوده بالمواطنين في كادوقلي. لكن مولانا لم يشأ أن يستثمر في ذلك الظرف، ولم يتعامل ببراغماتية مع الموقف فماذا فعل على وجه التحديد؟ أصطحبه مولانا إلى جناحه الخاص، وجعله ينام معه حتى الصباح، فالخروج في تلك الأجواء الملغومة كان فيه خطر كبير عليه. ثم خيره بأن يبقى أو يؤمن له طريقاً للخروج. وقد كان، فقد وجد أن أفضل شىء هو أن يتم تسليمه ل (يونيمس) وبعد ذلك هو حر في أن يذهب لأى مكان يشاء، وقد كان مهنا في غاية الإطمئنان إلى أن تم ترتيب إجراءاته وسافر إلى مدينة واو، حيث يقيم بها الآن بعد أن آثر الإبتعاد عن خوض حرب لا يعرف لها سبباً ولا هدفاً حتى الآن، كما لن يكون يسيراً عليه القفز فوق ذلك التعامل الأخلاقي، وحمل السلاح في وجه الحكومة. أخلاق الحرب من المعلوم أن أبناء قادة الحركة الكبار الذين يقاتلون الحكومة إلى جانب عبد العزيز الحلو، يقيمون في مناطق آمنة بكينيا ودول أفريقية وأوروبية أخرى، حتى الحلو نفسه، فمن المعلوم أن أبناءه يعيشون في بيت يملكه بأمريكا. لكن ربما فاتت على موسى كجو، معتمد أبو جبيهة الذي تمرد وإنخرط في صفوف المقاتلين مع الحلو هذه الحقيقة، فلم يشأ في البداية أن يترك زوجته وأبناءه وراءه، فأخذهم معه في رحلته نحو المجهول إلى منطقة تحولت بعد الأحداث إلى مسرح للعمليات. ولكن عندما أشتدت قساوة الأوضاع على أسرة المعتمد السابق، وصعب عليه رؤية أبنائه في وضع يعانون فيه من الجوع والمرض وفقدان الأمن، حاول أن يجازف ويدعهم يرجعون لإستئناف حياتهم بصورة جيدة، وإلا، فربما ماتوا أمام عينيه في تلك المناطق التي يشعر فيها الكثيرون - منذ تمردوا- أنهم مشاريع قتلى. ضبط حالة تسلل وبعد أن ضاقت بهم الظروف هناك، حاولت زوجة موسى كجو التسلل خفيةً إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، لكن أعين الأجهزة هناك كانت ترصد كل شىء بدقة، فتم رصد زوجة وأبناء موسى كجو والتعرف عليهم، ثم طمأنوهم بأنهم سيكونون في أمن وسلامة لحين الوصول إلى وجهتهم التي يقصدونها، فمعركة الحكومة هناك لم تكن مع النساء، وأخلاق السودانيين تشكل حصناً منيعاً ضد مس إمرأة أو أسرة ضعيفة بأى أذى، خاصة وأنها لا علاقة له بما يجرى من أحداث بالولاية. الجدير بالتوقف عنده هنا، ليس ترك السلطات لزوجة المعتمد الذي تمرد موسى كجو في حال سبيلها، وإنما ترتيبهم لأوضاع سفرها إلى الخرطوم، حيث تقيم الآن بحى الأزهرى في أمن وأمان. تجاوز المرارات مهما يكن من أمر، فقد أستوقفني ما قاله الدكتور راغب السرجاني عن أخلاق الحرب حين قال: (إن حسْنَ الخُلُق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب تفعله كل أُمَة في أوقات السلْمِ مهما أوغلت في الهمجية، ولكن حُسْن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أُمَّة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتَّصِفَ به، إن رؤية الدم تُثِيرُ الدم، والعداء يؤجِّج نيرانَ الحقدِ والغضب، ونشوة النصر تُسْكِرُ الفاتحين؛ فتوقعهم في أبشع أنواع التشفِّي والانتقام، ذلك هو تاريخ الدول قديمها وحديثها، بل هو تاريخ الإنسان منذ سفك قابيل دم أخيه هابيل). لكن ما يجدر التوقف عنده في ختام هذه الحلقات عن الأحداث بجنوب كردفان، هو أن تلك الأحداث، وبمثلما أفضت إلى موت وخراب ودمار وغدر وغير ذلك من الأشياء غير المحببة، فقد كشفت كذلك عن فائض في الأخلاق، فائض قد يفضى إلى تجاوز المرارات، وطى صفحة الحرب بولاية جنوب كردفان، ومن ثم الإنطلاق بها مجدداً إلى فضاءات الأمن والإستقرار والتنمية. نقلا عن صحيفة الراي العام السودانية 10/8/2011م