ليس بمستبعد ان يتراجع الي حد التلاشي العمل المسلح الذي ظل سمة غالبة للممارسة السياسية في السودان منذ استقلاله في العام 1956.وعلي وجه الإجمال فان الأعمال المسلحة التي شهدها السودان طوال النصف قرن الماضي من عمره لم تحقق في حد ذاتها نتائجا ذات قيمة لمن بادروا بها ففي النهاية تغلبت عمليات التفاوض والحوار علي أصوات المدافع والطلقات .لا يوجد حتى الآن فصيل مسلح واحد انتصر في عملياته العسكرية وفرض شروطه ودخل الي غرف التفاوض ليحصل علي مكاسب انتصاره .فالحركة الشعبية التي أتيح لها الحصول علي دولة مستقلة لم تكن في حال ميداني مؤثر حين جلست للتفاوض كانت العملية برمتها عملية رهق وضيق بالقتال الذي اهلك الحرث والنسل واوجد أوضاعا إنسانية ضارة ولعل ابلغ دليل علي ذلك ما ظل يتردد علي لسان قادة الحركة الشعبية منذ توقف القتال قبل ست سنوات وحتي انقضاء الفترة الانتقالية وقيام دولة الجنوب من انه لا رجعة للحرب .صحيح ان هنالك سلوك ظلت تسلكه الحركة كان يشير دوما الي انه قد يقود الي الحرب وصحيح ان بعض قادة الحركة كانوا يدفعون الحركة في أحيان كثيرة للعودة للحرب ولكن لم يكن هنالك ما يشير جديا لهذه الرغبة وقد أدرك الطرفان ان الحرب مجرد عبث وإضرار لا طائل من ورائه .في الشرق أيضا ومنذ توقف القتال رسميا أواخر العام 2007م ودخول الاتفاقية حيّز التنفيذ تبعثرت تماما الرغبة في الحرب واشتَّدت وطأة مواجهة استحقاقات السلام والتنمية .وبالنسبة لدارفور فقد انقضت كافة المعينات الإقليمية والدولية لحملة السلاح لمواصلة الحرب ،فقد نأت تشاد بنفسها عن دعم المتمردين في دارفور ودخلت ليبيا فيما هي فيه الآن بحيث أصبح سلامها واستقرارها هي نفسها علي المحك دعك من ان تخوض في حرب خارجها . وقد رأينا كيف تقطعت السبل بحملة السلاح في دارفور وكيف تباعدت بهم الأيام والشهور بل والسنوات عن واقع إنسان دارفور بحيث لم يعودوا خيارا لأهلهم بحال من الأحوال .إذن لم يعد العمل المسلح مفيدا ومجديا هو فقط وسيلة ضغط ولكن وسائل الضغط في العمل السياسي لا تصلح كل الوقت ولا تفيد وتجدي طوال الوقت خاصة اذا تنامت الرغبات الشعبية الرافضة للحرب ولعل اصدق دليل علي ذلك حالة الضيق والسخط العارمة التي عَّمت جنوب كردفان عقب تمرد الحلو الأخير للدرجة التي دفعت بقادة كبار من الحركة ومن رفاق المتمرد الحلو لرفض وإدانة مسلكه .يأتي كل ذلك في ظل حاجة السودان بعد انفصال جنوبه الي ترتيب شئونه عبر عمل سياسي وقد رأينا كيف ان دولة الجنوب نفسها بذلت ولا تزال تبذل جهدا مُضنياً لمعالجة عمليات التمرد الدائرة فيها . ان المستقبل القريب والبعيد للسودان لم تعد تصلح فيه العمليات السياسية المسلّحة فالدعم الدولي يمضي في اتجاه الانحسار والمصالح الدولية لم تعد تحتمل الصرف المالي ومناخ التحول الديمقراطي ولو كان قليلا حاليا في السودان لا مجال فيه لبدايات جديدة فهل ينحسر العمل المسلح ويخرج من قاموس هذا البلد المثخن بالجراح قريبا ؟ذلك مالا يستبعده الكثيرون وان كانوا يرونه بعيدا قليلا ولكنه ليس صعبا ولا مستحيلا !!