سبق لي ان كتبت قبل فترة عن القضية التي تفجرت في مصر مؤخرا والمتعلقة بالتمويل الاجنبي، والأمريكي بالذات، لمنظمات وجمعيات المجتمع المدني، والتي تحقق النيابة العامة المصرية فيها حاليا. وتحدثت في هذا السياق عن القضية في البحرين أيضا، وقلت ان الموقف الوطني الصحيح هنا سواء في مصر أو البحرين أو أي بلد عربي هو ان السلطات المسئولة يجب ان تحظر هذا التمويل الأجنبي نهائيا. القضية شهدت مؤخرا تطورات في مصر تستحق التوقف عندها. بداية، الحكومة المصرية على ضوء الجدل الذي ثار والتحقيقات الجارية، قررت حظر تقديم أي تمويل أو منح أجنبية لأي من منظمات المجتمع المدني في مصر. واعتبرت الحكومة ان هذا التمويل يعتبر تدخلا سافرا في الشئون الداخلية لمصر، وطلبت من هذه المنظمات تحديد المعونات والمنح التي تلقتها في السابق وطرق انفاقها. المهم هنا هو رد فعل هذه المنظمات والجمعيات على هذا القرار وعلى التحقيقات الجارية. رد الفعل هذا يستدعي التوقف عنده مطولا. أعلنت عشرات من هذه المنظمات (39 منظمة) انها سوف ترفع شكوى إلى المقرر الخاص المعني بالحق في التجمع وحرية تكوين الجمعيات بالأممالمتحدة، والى مقرر حقوق الإنسان في الأممالمتحدة ونظيره في اللجنة الافريقية لحقوق الانسان. بالطبع، سوف تشكو احتجاجا على قرار وقف الاموال الاجنبية لها ومطالبة باستمرار هذا التمويل وفي نفس الوقت شنت هذه المنظمات هجوما عنيفا على الحكومة المصرية وعلى المجلس الاعلى للقوات المسلحة، بسبب القرار وموقفها من قضية التمويل الأجنبي. في إطار هذه الحملة اتهمت هذه المنظمات الحكومة بأنها تقوم بحملة تشهير ظالمة ضد قوى المجتمع المدني والمجموعات السياسية المستقلة. واتهمت الحكومة بأنها تسعى الى تقويض «المكتسبات» التي حققتها هذه الجمعيات في مجال «حرية التنظيم السياسي والنقابي والاهلي». ووصل الأمر بهذه الجمعيات التي تتلقى التمويل الأجنبي الى حد المطالبة بإقالة الدكتورة فايزة أبوالنجا وزيرة التعاون الدولي والدكتور جودة عبدالخالق وزير التضامن الاجتماعي بسبب ما اسموه «موقفهما المعادي لمنظمات المجتمع المدني». ماذا يعني رد فعل هذه المنظمات على هذا النحو، وكيف نفهمه؟ بداية، ان دل رد الفعل هذا على شيء، فانما يدل على ان القرار الصائب الوحيد في التعامل مع هذه القضية، هو القرار الذي اتخذته الحكومة المصرية بالفعل، أي وقف أي تمويل أجنبي من أي جهة كانت الى هذه المنظمات. بعبارة أخرى اظهر رد فعل هذه المنظمات ان هذا التمويل الاجنبي، ليس فقط تدخلا سافرا في الشئون الداخلية وانتهاكا للسيادة اذ يتم تقديم هذا التمويل الى الجمعيات مباشرة دون علم الحكومة، لكنه خطر داهم يجب وقفه ومواجهته. رد فعل هذه المنظمات على هذا النحو يكشف عن عدد من الحقائق الخطيرة: أولا : ان هذا التمويل الأجنبي لعشرات من المنظمات في مصر، وعبر سنوات طويلة وفي ظل صمت الدولة عنه، قاد في النهاية الى إيجاد فئة منتفعة من هذا التمويل، وبعض أفرادها اثروا بمعنى الكلمة بسبب هذا التمويل، وهم في مصر معروفون بالاسم بالمناسبة. بعبارة أخرى هذا التمويل الأجنبي أوجد فئة واسعة أصبحت مرتبطة ارتباطا مصلحيا وثيقا بهذه القوى الأجنبية، وهي ليست مستعدة للتخلي عن هذه المنافع، وعن مصدر اثراء البعض. ثانيا: ان هؤلاء المسئولين عن الجمعيات التي تتلقى التمويل الاجنبي، اصبحوا يتعاملون مع هذا التمويل، ومع المنافع التي يحصلون عليها من القوى الاجنبية، باعتبار انه اصبح حقا مكتسبا ليسوا مستعدين للتفريط فيه . أصبحوا يفكرون ويتصرفون على هذا النحو بغض النظر عن كل ما يثار عن شبهات تحيط بهذا التمويل، وعن اجندات سياسية اجنبية يخدمها بالضرورة. ثالثا: ان هؤلاء وصلوا إلى نقطة اصبحوا لا يكترثون فيها بأي مصلحة وطنية . لنلاحظ هنا ان كل الحجج التي يسوقونها في انتقاد قرار الحكومة المصرية وفي اصرارهم على «حقهم» في الحصول على التمويل الأجنبي، هو كلام فارغ ولا يندرج في إطار أي مصلحة وطنية حقيقية. وهم ليسوا مستعدين حتى للاستماع الى الحجج المنطقية، والمخاوف المشروعة من هذا التمويل الأجنبي وخطره، والتي لا تثيرها الحكومة فقط، وانما تحذر منها القوى الوطنية منذ سنين طويلة في الحقيقة. خلاصة الأمر كما نرى ان ما تفعله هذه المنظمات التي تتلقى التمويل الأجنبي في مصر، وقتالها الشرس من أجل منافعها والذي وصل إلى حد شكوى الحكومة إلى الاممالمتحدة، انما يؤكد إلى أي حد وصلت خطورة هذه الظاهرة، وإلى أي حد وصل الاختراق الأجنبي عبر هذا التمويل. وأي خطورة اكثر من ان تعتبر قوى مجتمع مدني ان التبعية للخارج ولقوى أجنبية وتنفيذ أجندتها حق مكتسب يستحق القتال من أجله؟ للحديث بقية بإذن الله. المصدر: اخبار الخليج 4/9/2011