ظلت الحكومة المصرية تعلن لفترات طويلة أنها فتحت تحقيقات قضائية بشأن تلقي منظمات ومؤسسات وجمعيات أهلية تمويلات بملايين الدولارات من جهات أجنبية، وذلك في أعقاب نجاح الثورة الشعبية في إسقاط نظام الرئيس السابق حسني مبارك، من دون أن تعلن عن تطورات التحقيقات أو الأطراف التي تجرى معها، حتى داهم رجال التحقيق في الأسبوع الماضي مقار لسبع عشرة منظمة أهلية مصرية وأخرى تتبع منظمات أجنبية، في تصرف أثار عاصفة انتقادات محلية ودولية، وقالت السلطات: إنه يستهدف التفتيش عن وثائق تتعلق بتحقيقات التمويل الأجنبي . إقدام الحكومة المصرية على تلك الخطوة أكد مسؤولون أنها قرار قضائي خالص لا دخل للسلطة التنفيذية بها دفع إلى تفسيره على عدة أوجه، فهناك المنظمات الحقوقية والتي تعتبر تلك الخطوة رداً على ما تصفه بدورها المؤثر في التمهيد لثورة يناير واستكمال هذا الدور خلال الثورة بتقديم الدعم القانوني والإعاشي لنشطائها، واستباقاً لخطوات قمعية ترى المنظمات أن المجلس العسكري بصدد الإقدام عليها لمنع أي احتجاجات تواكب الاحتفالات بالذكرى الأولى لانطلاق الثورة، كما يرى نشطاء حقوقيون في تلك الخطوة من جانب المجلس العسكري محاولة للتغطية على ما يصفونه بالإخفاق في إدارة شؤون البلاد وما شهدته الفترة الأخيرة من تصعيد للتجاوزات بحق المتظاهرين، وهناك في المقابل تفسير يذهب إلى القول باستحالة إقدام السلطات المصرية على تلك الخطوة بحق المنظمات الحقوقية وبينها منظمات أمريكية عاملة في مصر من دون امتلاك أدلة واضحة على تورطها (المنظمات) في تلقي تمويلات لأغراض مخالفة للقانون، وسبق لمسؤولين وقيادات بالمجلس العسكري أن أعلنوا صراحة أن هناك كيانات أهلية تتلقى تمويلاً أجنبياً، وتستخدمه في دعم أعمال العنف والمصادمات في البلاد . الانتقادات في الداخل لتلك الخطوة جاءت من مختلف الأطراف وحتى جماعة الإخوان المسلمين التي سلكت سبيل الدفاع عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في غالب تصرفاته، اتخذت جانب المنتقدين لخطوة تفتيش مقار المنظمات الحقوقية، وأعلن أمين عام حزب الجماعة “الحرية والعدالة" الدكتور سعد الكتاتني رفض حزبه للطريقة التي تم التعامل بها مع منظمات المجتمع المدني، وغلق بعضها على خلفية اتهامها بتلقي تبرعات من دول ومنظمات أجنبية، وصرفها في غير مصارفها الشرعية، وقيامها بتعليم بلطجية وخارجين على القانون الأمور السياسية، واستخدامهم في توتير الأمن والنظام العام في البلاد تحقيقاً لأجندات خارجية، من دون دليل أو برهان يثبت هذا الأمر، وزاد القيادي الإخواني في انتقاداته للمجلس العسكري بالتذكير بأن النظام السابق لم يقم يوماً باقتحام تلك المنظمات وغلقها بالشكل الذي حدث خلال الأيام الماضية، مطالباً المجلس العسكري والحكومة بأن ينتهجا الشفافية في كشف المعلومات الخاصة بتلك المنظمات، وكذلك الشفافية في التحقيقات، بحيث يكون الرأي العام المصري على اطلاع بمجريات الأمور الخاصة بتلك القضية، بالإضافة إلى ضمان إجراء محاكمة عادلة لمن يثبت تورطه من هذه المنظمات، داعياً في الوقت نفسه المنظمات الحقوقية إلى أن تسعى لتمويل أنشطتها من تبرعات المصريين فقط . وفيما كان مفهوماً أن تدافع المنظمات العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان عن نفسها بشراسة وأن تلوح باللجوء لكافة الخيارات في مواجهة الخطوات الحكومية الأخيرة، ومن بينها اللجوء للاعتصام في الشارع وأمام مقارها وتصعيد الأمر إلى المنظمات الدولية المعنية لشكوى الحكومة المصرية، في ما كان مفهوماً ذلك، فإن رد فعل جماعة الإخوان المسلمين لم يكن مفهوماً سوى في إطار أنه يأتي لمغازلة الرأي العام الخارجي وبالتحديد الولاياتالمتحدة وأن تواصل الجماعة محاولات تقديم نفسها كمدافع عن الحريات وعن المنظمات الأهلية، على الرغم من توجيه الجماعة انتقادات حادة في أوقات سابقة لما كانت تصفه بارتباط المنظمات الحقوقية بأجندات وأولويات خارجية تبعاً لجهات التمويل . أما المنظمات الحقوقية فحددت لنفسها عدة مسارات للعمل في مواجهة الهجمة الحكومية، حيث لوحت بأنها تعتزم “مجتمعة" تقديم شكوى ضد الحكومة المصرية إلى مفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، والمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان، واللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان، إضافة إلى تقديم بلاغات إلى النائب العام المصري، فيما لجأ الناشط ناصر أمين مدير المركز العربي لاستقلال القضاة والمحاماة، والذي جرى إغلاقه خلال حملة المداهمات إلى ممارسة نشاطه من على رصيف الشارع المواجه لمقر منظمته، محدداً شروطاً لتسلم مقر المركز وعودته لممارسة عمله من داخله، وفي مقدمتها أن يتسلمه بمحضر رسمي من السلطات وأن تتم تنحية النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، وإبعاد كافة أعضاء نيابة أمن الدولة العليا، متهماً إياهم بأنهم تستروا على جرائم مبارك ورجاله على مدار سنوات طويلة ولم يحركوا ساكناً إزاءها، معتبراً أن ما يشغل المنظمات الحقوقية حالياً ليس توقف الحملة الحكومية ضدها، وإنما العمل على تحرير العمل المدني . وأعلن النشطاء الحقوقيون تشكيل لجنة قانونية لاتخاذ الإجراءات القانونية للرد على اقتحام مقار المنظمات، وأخرى للاتصال بالجماهير والقوى السياسية والمنظمات الدولية لبحث سبل التصعيد ضد الممارسات الحكومية، وقال النشطاء إنهم يعتزمون تحريك دعاوى قضائية لاختصام قضاة التحقيق في ملف تمويلات المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني في مصر لما شاب هذه التحقيقات من مخالفات لقانون الإجراءات القانونية، إضافة إلى مقاضاة وزير العدل بسبب تصريحاته لوسائل الإعلام، والتي أدلى فيها بمعلومات عن هذه التحقيقات تمثل جنحة تأثير على سير التحقيقات، معتبرين أن ذلك يعد محاولة للتأثير في مجريات سير التحقيقات، فيما رأى نشطاء أن الهجمة التي يتعرض لها المجتمع المدني هي هجمة سياسية بالدرجة الأولى يقودها المجلس العسكري بتعاون من قوى الإسلام السياسي وبقايا النظام السابق، مفسرين ذلك بأن القوى المتهمة بإدارة تلك الحملة تعلم جيداً الدور الذي قامت به منظمات المجتمع المدني “في التمهيد للثورة وفي دعمها بعد اندلاعها"، إضافة إلى دورها في “كشف وملاحقة الانتهاكات الخطرة التي يقوم بها المجلس العسكري في التعامل مع المواطنين وبعض القوى الثورية" . ويقول الناشط مجدي عبدالحميد مدير الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية، إن قوى وجماعات الإسلام السياسي تعلم جيداً أن منظمات المجتمع المدني هي من ستتصدى بقوة لمحاولات الاعتداء على مدنية الدولة في مصر . رد الفعل الخارجي تعدد ما بين منظمات دولية وإقليمية انتقدت بشدة الحكومة المصرية وتصريحات لمسؤولين بالإدارة الأمريكية دعت السلطات المصرية إلى وقف حملاتها ضد المنظمات، والتي طالت مقار لمنظمات أمريكية تعمل في مصر، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن مصر أكدت للولايات المتحدة أنها ستوقف المداهمات ضد المنظمات الأمريكية وغيرها من المجموعات المطالبة بالديمقراطية، وستعيد المعدات التي صادرتها، وقالت متحدثة أمريكية لسفيرة بلادها بالقاهرة إنها أثارت قضية عمليات الدهم مع مسؤولين مصريين بينهم أعضاء في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مضيفة: “السفيرة أبلغتهم بحزم أننا نأمل في أن تعاود كل المنظمات الدولية، بما فيها التي تتلقى دعماً من الحكومة الأمريكية، عملها الطبيعي في أسرع وقت ممكن دعماً للانتقال الديمقراطي الجاري في مصر" . في مقابل التصريحات الأمريكية الساخنة جاءت تصريحات مسؤولين مصريين تحمل في طياتها تمسكاً بمواصلة الحملة في قضية التمويل الأجنبي، ووجه وزير العدل اتهامات لجمعيات باستخدام التمويل في أنشطة غير مدرجة في برامج إنشائها، وإلى جمعيات أخرى بأنها عملت في مصر في الفترة التالية للثورة من دون أن تبرم اتفاقًا مع وزارة الخارجية للعمل، ملمحاً إلى أن “الجمعيات المخالفة يجب أن ينطبق عليها ما ينطبق على المنظمات المقننة التي استوفت شروط العمل في مصر، خاصةً العقاب الشديد في حالة المخالفة للقانون"، مشيراً إلى أن مصر مثل بقية دول العالم ترفض التمويل السياسي للجمعيات الأهلية باعتبار أنشطته مخالفة للقانون، لافتاً إلى أن مخالفات الجمعيات الأهلية تشكل جرائم جناية وعقوبتها السجن أو جنحة وعقوبتها الحبس، “حيث إن بعض هذه الجمعيات شُكّلت من دون معرفة الحكومة ووزارة الخارجية، بما يعد مخالفاً للقانون"، فيما أشارت وزيرة التعاون الدولي إلى أن إجراء التفتيش لمقار الجمعيات الأهلية المخالفة للقانون، كان قراراً خالصاً لقاضي التحقيق، من دون تدخل من جانب أي سلطة تنفيذية في البلاد، مؤكدة أنها أعلنت للسفيرة الأمريكية رفضها وصف ما حدث للجمعيات بأنه اقتحام أو مداهمة، كونه “إجراء قانوني لإنفاذ القانون، وحماية السيادة المصرية"، وقالت، إن السفيرة قدمت وعداً بتقنين أوضاع الجمعيات التابعة لبلادها والعاملة في مصر من دون ترخيص، ودعت الوزير المصرية جميع دول العالم إلى احترام إنفاذ القاهرة للقانون، كما تحترم هي إنفاذهم لقوانينهم، رافضة أي تدخل أجنبي من جانب أمريكا أو أي من الدول الأخرى في الشأن المصري . لا ينكر منصف الدور الذي لعبته المنظمات العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في مصر منذ نشأتها قبل نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حيث أسهمت في الدفاع عن الحريات العامة، وفي القلب منها حريات الرأي والتعبير والتجمع والتظاهر السلمي، والحقوق في إنشاء الأحزاب السياسية وإصدار وتملك الصحف، إضافة إلى تصديها لكشف ممارسات النظام السابق في ما يتعلق بالتعذيب داخل السجون وأقسام الشرطة ومقار الاحتجاز، إضافة إلى ممارسات التقييد على الحريات العامة وملاحقة النشطاء المعارضين، لا ينكر منصف ذلك، غير أن ما يظل في المقابل محلاً دائماً للتحفظ والانتقاد من جانب مفكرين مصريين وقوى سياسية هو قضية التمويل الأجنبي، وتلقي تلك المنظمات ملايين الدولارات على مدى السنوات الأخيرة، ما دفع إلى إنشاء البعض للعشرات من الجمعيات والمنظمات تحت لافتة الدفاع عن حقوق الإنسان وتلقي تمويلات ضخمة، حتى تحول الأمر من مجال التطوع في عمل يفترض فيه ألا يكون مدراً للربح إلى وسيلة للثراء السريع، خاصة أن مصر شهدت طوال السنوات الأخيرة ما عرف بظاهرة “الجمعيات العائلية"، حيث يبدأ الناشط بتأسيس كيان حقوقي ويلحقه بعد فترة أخرى بكيانات تابعة يقوم على إدارتها بعض من أفراد أسرته، ليدفع بمزيد من المخاوف عن اختراقات تتبع التمويل الأجنبي، والذي وصل بحسب رصد وزيرة التعاون الدولي إلى 200 مليون دولار في فترة ما بعد الثورة وحدها، ومن جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية فقط، دون بقية مصادر التمويل وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي . وتتخذ الجمعيات العاملة في مجال العمل الأهلي في مصر عدة أشكال لعملها، فهناك الجمعيات الأهلية وهي خاضعة للقانون رقم 84 لعام 2002 وهذه تخضع لإشراف وزارة التضامن والجهاز المركزي للمحاسبات، ويتعين عليها الحصول على موافقة قبل التقدم للحصول على تمويل، وفي حالة الموافقة والحصول على التمويل لا بد من الحصول على موافقة من قبل مسؤولي التضامن لصرف الدفعات المالية، وتقوم التضامن بمراجعة وتفتيش ومخاطبة البنوك عن الأرصدة وكيفية الصرف وأوجه الصرف، وهناك أيضاً المؤسسات وينطبق عليها كافة الأحكام التي تنظم عمل الجمعيات من مراجعة وإشراف كامل من وزارة التضامن وأموالها هي أموال عامة يجوز الحجز عليها ومراجعتها وتتبع وزارة التضامن في كافة ما يجري داخلها من أنشطة، وهناك أيضاً شركات المحاماة ويتم تسجيلها من خلال موافقة نقابة المحامين ويدفع عنها ضرائب من خلال ما تقوم به من أنشطة، أما الشكل الأخير والأكثر إثارة للجدل فهو ما يعرف بالمراكز المدنية، والتي تؤسس عن طريق مصلحة الشركات، ويفترض فيها أن تضع أموالها بأسمائها في بنوك مصرية أو أجنبية، كما يفترض أن تتم متابعتها من خلال مصلحة الضرائب، لكن مراقبين يشيرون إلى أن الشكل الأخير يتيح بدوره أشكالاً للحصول على التمويل بعيداً عن رقابة الدولة وعينها، وفي الغالب لا يتم صرفه في ما خصص له . المصدر: الخليج الاماراتية 8/1/2012