بالمعطيات الماثلة حالياً في مجمل الوضع السياسي العام في السودان فان الحركة الشعبية – إذا قُدر لها التمسك بالحياة والبقاء في الملعب السياسي – فإنها حياة علي أية حال لا حراك فيها ؛ فهنالك جملة تعقيدات تواجه الحركة لم تكن هذه التعقيدات لتبلغ هذا المدى الشاسع والحجم الهائل الضخم لولا تهور قادتها وخطأ حساباتهم وتعجلهم وإصغاؤهم القاتل لمن يهمسون في أذانهم من الخارج . التعقيد الأساسي بالنسبة للحركة هو أنها – وبالمخالفة للطبيعة السياسية والإنسانية لأي كائن سياسي حي، وضعت في حساباتها أنها حققت تقرير مصير كامل الدسم السياسي منحها دولة مستقلة خاصة قائمة بذاتها هي وحدها حتي الآن الحاكمة فيها وهي جمهورية جنوب السودان وتسعي عبر ما تبقي منها في الشمال لكي تصبح شريكة في حكم السودان بذات وزنها السياسي السابق تمهيداً لكي تصبح – بعد الشراكة – حاكما آخر للسودان. بمعني أكثر بساطة فان الحركة الشعبية أرادت ضرب دولتين بحجر نيفاشا الواحد وتركت جيشاً مسلحاً في الشمال، ثم تنصلت منه وادعت انقطاع علاقتها به ليصبح عبئاً أمنياً على السودان ونواة لحركة مسلحة تساوي ذات وزن الحركة السابق . هذا التعقيد بائس للغاية؛ فقد أُسقطت فيه تماماً كافة المكونات السياسية للسودان واستهانت الحركة أيما استهانة بالعمود السياسي الفقري للدولة السودانية ونواتها الصلبة والمتمثلة في قطاع عريض من السودانيين العامة والمستنيرين الذين من المستحيل ان يلتقوا في رؤاهم ولو مجرد لقيا عابرة بالحركة ، ولن يجدي في ذلك حديث التهميش المكرر الفاقد المحتوي، فالتهميش كان لغة قديمة لمرحلة قديمة انقضت وسلعة سياسية بيعت ولا يمكن ان يُعاد بيعها لذات المشترين المخدوعين . التعقيد الثاني ان الحركة هنا في الشمال فقط أعطت انطباعاً راسخاً أنها ذات بُعد عرقي مناطقي وجهوي يعمل عبر فوهة البندقية وهو ما تصادم مع عناصر بناء الدولة الحديثة، وما يستحيل ان يتحقق ليتأسس جنوب سوداني جديد بحيث تمضي الأمور علي وتيرة كل جنوب يتناسل منه جنوب آخر. التعقيد الثالث – وهو الأخطر – ان الرسالة الوحيدة التي أرسلتها الحركة في الشمال للكافة وفَهِموها علي الفور هو أنها ماضية نحو فرض وجودها عبر العمل المسلح وليس عن طريق بناء نفسها سياسياً لبنه لبنه، ودرجة درجة وهو ما يخالف الطبيعة تماماً، ولعل هذا ما يفسِّر أو ما أتاح بالفعل للحكومة السودانية لعدم التهاون في ضرب عمودها الفقري ضرباً لا هوادة فيه؛ فهي – أي الحركة – تختلس حقاً سياسياً لا حقَ لها فيه وتتذرع بذرائع ليست واقعية . لقد قادت هذه التعقيدات الثلاثة قادة الحركة الي واقعهم الراهن ؛ حَمَلة سلاح يقاتلون دولة وليس حكومة ويؤلبون الأمريكيين والأجانب علي بلادهم وينشرون الأكاذيب بما يمس صميم أمن الدولة – وليس السلطة الحاكمة – غير عابئين بما قد يجرّونه لبلادهم ؛ وهي كلها ممارسة مردها سوء التقدير وخطأ شنيع في الحسابات من شأن التسامح معه – خاصة في الوقت الراهن – ان يؤجل الأزمة لتصبح اكبر في المستقبل القريب، ولهذا فان خطأ الحسابات هذا يصل في شناعته الي مرتبة الجريمة في حق الدولة بكاملها أرضاً وشعباً وحكومة، مما يستوجب معه عقاباً الغرض منه ردع مثل هذا التوجه الخاطئ القائم علي فرضيات مخادعة هدفها إعادة إحياء أزمة انطوت ودفع السودان ثمنها الباهظ من أرضه وخارطته السياسية والجغرافية وموارده وثرواته !