لئن أثار حديث الموفد الأمريكي الخاص الى السودان برنستون ليمان إحباطاً وهواجساً لدي قوى المعارضة السودانية السلمية منها والمسلحة، والذي قطع فيه بأن إدارته لا تشجع إسقاط الحكومة السودانية ولا تري سبباً داعياً لذلك بقدر ما تريد (انتهاج وسائل سلمية ديمقراطية) فى إصلاحها وليس تغييرها؛ فان من غير الحصافة أن يبعث ذات التصريح الأمريكي الارتياح لدي الحكومة السودانية و يدفعها للاطمئنان تماماً لهذا الموقف. صحيح ان واشنطن لم تتوصل الى هذه القناعة بالمصادفة، وصحيح ايضاً أنها مدركة لطبيعة العواقب التى من شأنها ان تنجم جراء اشتعال الأوضاع في السودان وما قد يجرّه ذلك من انتقال للنيران بالضرورة الى الجار القريب دولة جنوب السودان، ويصبح النفط موضعاً للنيران ولهيبها الحارق. ولكن بالمقابل فان واشنطن وعلى نحو الخصوص فى عهد إدارة أوباما الحالية عرفت بلعباتها (الصامتة الخفية)، كما أنها فى كثير من الأحيان تحرر تفويضاً غير مكتوب لحليفتها اسرائيل لتلعب بطريقتها الخاصة، فى حدود معينة بدلاً عن الاثنين -واشنطن وتل أبيب- وقد كان لافتاً للنظر ومثيراً للانتباه أنه وفى الوقت الذى كان فيه ليمان يدلي بهذا الحديث لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية، كانت أخباراً أخري ترِد من اسرائيل تقول ان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يستعد حالياً للقيام بأول زيارة رسمية لمسئول إسرائيلي بهذه الدرجة الى دولة جنوب السودان، وأن وفد رئيس الوزراء الإسرائيلي الذى يعد حقائبه حالياً للرحلة الهامة والتي تشمل دولاً أخري مجاورة لدولة جنوب السودان يسبقه (لواء كامل) من الجيش الإسرائيلي (بمواصفات خاصة) الي جوبا لمهام مزدوجة بعضها بالطبع ذات طابع أمني لتوفير أقصي درجات التأمين والحماية للوفد الرئاسي الكبير وبعضها سيقوم بتدريب الجيش الجنوبي تمهيداً لخلق جيش نظامي على غرار الجيوش النظامية الحديثة. الملفت هنا الإعلان الصارخ عن الزيارة و (المرفقات) المرتبطة بها؛ فالعملية تبدو بمثابة (لعب على المكشوف) وكأني بإسرائيل تقول إنها قد أكملت موضع قدمها ووجودها فى دولة جنوب السودان ولم يتبق سوي (تدشين) هذا الوجود رسمياً بهذه الزيارة! ليس من المستبعد إزاء ذلك ان تكون تصريحات ليمان (خدعة سياسية) عادية خالية من أى ذكاء أو مهارة، ففي العمل السياسي فى كثير من الأحيان تكفي خدعة عادية متوسطة الذكاء لأداء المهمة. كما ان من الممكن ان تكون التصريحات الأمريكية تهدف بالفعل الى ترسيخ قدر من الاستقرار فى السودان – على الأقل فى المرحلة الحالية – يتيح لحكومة جنوب السودان بمعاونة اسرائيل ترتيب بيتها من الداخل جيداً، وتأتي قضايا المصالح الأمريكية والإسرائيلية فى المنطقة من ثم كنتيجة منطقية لهذا الجهد الأمريكي ويكون المناخ مواتياً للمحافظة عليها. كما أن من المحتمل ان واشنطن تراهن فعلاً على تداول سلمي للسلطة فى السودان قائم على استقرار خاصة وان المحيط العربي للسودان فى مصر وتونس وليبيا حصدَ فيه الإسلاميون كل مقاعد المقدمة وأصبح وجودهم فى كابينات القيادة واقعاً لا مناص من التعاطي الواقعي معه. كل ذلك وراد، ولهذا لا نعتقد ان الخرطوم قد تنفست الصعداء بحال من الأحوال جراء هذه التصريحات، فهناك ما يقلق كشأن السياسة التى لا تدوم على حال، وهناك ما يدعو للبحث والتدقيق فى تلافيف الذهن الأمريكي الماكر .