فى سياق توصيفه لطبيعة الأزمة الحالية الناشبة بين دولة السودان وجنوب السودان وتعثُر المفاوضات بينهما قال المبعوث الامريكي الخاص للسودان (برنستون ليمان) إن حكومتا السودان وجنوب السودان ترتكبان انتحاراً اقتصادياً مشتركاً وكل واحد منهما ينتظر إنهيار الآخر جراء مواقفهما المتعنتة واصفاً ما يحدث بأنها حرب يستخدم فيها النفط. ليمان الذى كان يتحدث فى ندوة بمعهد (كارنينجي) للسلام الدولي منتصف الاسبوع الماضي كان قد أجري عدة محاولات فى مقر المفاوضات بأديس أبابا لتقريب مواقف الطرفين، وفيما يبدو أن جهوده تلك لم تكلل بالنجاح، بل يبدو ان الرجل أصابه يأس مبكر من إمكانية إحداث اختراق على المدي القريب، فياتري ما الذى دعا ليمان الذى ذهب الى أديس بقدر غير قليل من التفاؤل ثم سرعان ما عاد كسيفاً حاملاً كل ذلك القدر من المرارة واليأس؟ الواقع ان من الصعب تشخيص أزمة ليمان، ولكن ليس من الصعب بالمقابل تقصي عدد من الشواهد الدالة على ان واشنطن قد أعيتها الحيل إزاء الأزمة السودانية الجنوبية وان العقدة الرئيسية – لسوء الحظ – تقع على الحبل الممتد على الطرف الجنوبي. أول شاهد، إن ورود كلمة انتحار على لسان دبلوماسي أمريكي تعتبر تطوراً كبيراً جداً فى نظرة واشنطن الى الوضع برمته ومن المؤكد ان ليمان حين استخدم هذه الكلمة كان يعني على وجه الخصوص قرار الحكومة الجنوبية بوقف ضخ النفط، لأن عقدة الأزمة كلها إنما نبعت من خلال هذا القرار الأحادي الجانب الذى إتخذته الحكومة الجنوبية بقدر وافر من الحماقة، وسوء التقدير فى مارس الماضي. ومن المعروف أنه يستحيل على أى مسئول أمريكي – مهما إمتلك من الجرأة والصراحة – ان يغامر بإلقاء اللوم الى هذه الدرجة على الحكومة الجنوبية، ولهذا فإن ليمان عمل على تقسيم الكلمة بين الطرفين، السودان وجنوب السودان رغم أن كل متابع للأزمة يعلم ان الكلمة لا تصلح إلا لتوصيف قرار وقف ضخ النفط الصادر عن الحكومة الجنوبية. بمعني أوضح فإن ليمان فضل تعميم الوصف على الطرفين حتى يتجنب النتائج السالبة عليه وعلى موقعه الدبلوماسي اذا ما قصر الوصف على الحكومة الجنوبية. الشاهد الثاني ان واشنطن ورغم كل ما بذلته من (نصح) وفى بعض الاحيان (زجر دبلوماسي ناعم) مع جوبا، إلا أن الاخيرة ظلت على تعنتها، وهو ما يشير الى ان جوبا لديها (أهداف خاصة) من هذا التعنُّت أغلب الظن إنها اهداف تتصل بقضايا ثأرية سابقة وتراكمات من رزايا الحرب الطويلة المضنية طوال نصف قرن من الزمان. واشنطن غير قادرة على فهم ما ترمي اليه جوبا جراء مواقفها المتعنته لأنها لا تستطيع ان تعي مثل هذه الامور الثأرية عديمة الجدوي والنفع، ومن جانب ثاني فإن واشنطن ضغطت ولا تزال تضغط على الجانب السوداني بشتي السبل وبكل ما تجده أمامها حتى أدركت ان الضغط إنما يجري على الطرف الخطأ وأن عليها إن كانت تنتظر نتائجاً ايجابية أن توجه ضغوطها الى الوجهة الصحيحة وهو ما أعياها وأضعف كل قواها. الشاهد الثالث، أن الانتحار الذى بات يثير قلق واشنطن وعبَّر عنه ليمان فى حديثه هذا، مردّه الى الانهيار الوشيك للإقتصاد الجنوبي فى ظل عدم إكتراث الحكومة الجنوبية إزاءه، وهو إنهيار بدأ بالفعل حين عمّ الظلام أرجاء العاصمة الجنوبية جوبا ولم يستثنِ حتى القصر الرئاسي ودواوين الحكم المهمّة والفنادق الكبيرة والتى بدأ الاجانب يغادرونها وهم يستغربون لهذا الوضع الذى صنعته جوبا صنعاً ومازالت تصرّ عليه. لقد أراد ليمان – بلسان أمريكي متردد – أن يصرخ فى وجه القادة الجنوبيين مذكراً إياهم بأنهم فى وضع أسوأ من السودان وأن عليهم أن ينتبهوا لذلك .