على الرغم من التحذيرات الأمريكية الشديدة اللهجة لحكومة جنوب السودان بالابتعاد عن دعم اى عمل مسلح ضد الخرطوم، وعلى الرغم من ان جوبا فى أمسّ الحاجة لحلحلة قضاياها العالقة مع الخرطوم على نحو عاجل وسلس وعبر تفاهم ودي بين الطرفين؛ إلا أن ما يلوح فى الأفق الآن ان دولة جنوب السودان لا تبدو مكترثة للأمر كثيراً. وقبل ان نخوض فى متن هذا التحليل علينا ان نتذكر ان الحركة الشعبية الحاكمة فى دولة جنوب السودان لم تتخلص بعد من شعور ظل يلازم قادتها بالثأر والانتقام من السودان جراء بعض المرارات التاريخية التى لم تبارح أنفس البعض هناك؛ وهذه قضية وإن بدت ذات منحي شخصي يتصل بالدواخل و المشاعر البشرية بعيداً عن أحكام وقواعد الممارسة السياسية القائمة على المصالح، إلا انها أحد أبرز العناصر التى يمكن على ضوئها فهم وتفسير السلوك العدائي -غير المكترث لأي نتائج- الذى دأب قادة حكومة الجنوب على التعامل به. غير ان العناصر الاخري التى يمكن ملاحظتها والتي تشير الى رغبة محمومة لدي قادة الجنوب لمواجهة السودان عسكرياً يأتي فى مقدمتها عنصر وإن بدا غريباً لكنه ثابت وموثق ومعروف. فقبل نحو من عامين ولم يكن معروفاً بشكل واضح فى ذلك الحين ما إذا كان الجنوب سينفصل ويصبح دولة مستقلة أم لا؛ صرح الأمين العام للحركة الشعبية لوسائل الإعلام بأن الحركة الشعبية تسعي لفصل جنوب السودان، وأن الدولة الجنوبية المرتقبة – حينها – أعدت العدة – تسليحاً وعتاداً عسكرياً – للوقوف فى وجه السودان وكان أكثر ما يدعم صحة هذا التصريح ان بواخراً وطائرات متنوعة الجنسية كانت تنقل بدأب ومثابرة عشرات الدبابات والمدافع الثقيلة والصواريخ الى جوبا، وكلنا يذكر فضيحة الباخرة التى احتجزها قراصنة صوماليين قبالة السواحل الصومالية والتي قيل إنها تحمل أسلحة تخص كينيا، ولكن تبيّن من الوثائق لاحقاً أنها أسلحة استجلبتها كينيا لصالح دولة جنوب السودان، لأن جوبا يومها لم تكن قد أصبحت دولة بعد باستطاعتها شراء الأسلحة والتعاقد مع الدول المصنعة للسلاح. هذا بخلاف عشرات الأطنان من السلاح المتنوع الذى وصل الى جوبا عبر كمبالا وعبر ميناء ممبسا الكيني لاحقاً، وجري شحنه بالسيارات وعن طريق البر الى الجنوب. ربما كان ما قاله أموم فعلاً ان بلاده تستعد لحرب مع الدولة الأم، بصرف النظر عن النتائج والمآلات صحيحاً بالنظر الى هذه الوقائع التى يصعب إغفالها او الاستهانة بها. العنصر الثاني ان قادة الحركة الشعبية – صدقنا ذلك أم لم نصدقه – يطمحون فى التوسع ويراهنون فى هذا الصدد على بقايا الحركة هنا فى السودان، وقد رأينا كيف عملوا على دعم متمردي الحركة فى النيل الازرق وجنوب كردفان على نحو فاضح؛ فهي رغبة فى تمكين بقايا الحركة فى السودان فى ان يصبحوا على الأقل رقماً صعباً على غرار ما كانت عليه الحركة أيام شراكتها مع المؤتمر الوطني فى فترة الانتقال التى أعقبت نيفاشا 2005. وربما راود قادة الجنوب (حلم) قيام السودان الجديد شمالاً لينضاف إليهم جنوباً وإخراج أية معادلة سياسية أخري من المشهد تماماً. هذه الرغبة لا تزال متأججة فى نفوس قادة الحركة فى الجنوب وان كان من كابح يكبحها حالياً مخاوف وخشية واشنطن – ربما لأسباب موضوعية قوية – باستحالة نجاح عمل كهذا وجسامة مخاطره على المنطقة وعلى مصالح واشنطن نفسها. وهكذا فان فرضية وجود رغبة جنوبية للدخول فى حرب مع السودان تظل فرضية قائمة، وكما قلنا فهي فرضية لا تكترث الحركة الشعبية لنتائجها الكارثية، ولكن لسوء حظ الحركة الشعبية ان هذا الشعور من جانب القوى السياسية السودانية بهذه الرغبة الجنوبية أسهم فى توحيد الشعور الوطني السوداني (فى صمت) حيال هذا العمل الأخرق وكانت اقرب واصدق ترجمة لذلك هو المشاركة العريضة الواسعة النطاق للقوى السياسية السودانية فى حكومة القاعدة العريضة بحيث فوجئت الحركة الشعبية بأن السودان بات قريباً من أن يقوي جبهته الداخلية فى ذات الوقت الذى لا تزال فيه دولة الجنوب تعيش تنازعات وحروباً وأزمات!