ربما بدت الأهداف الجنوبية من وراء اعتداءاتها المتكررة على السودان والسعي لجرِّه الى حرب شاملة، ذات أبعاد سياسية فى ظاهرها، وتدور بصفة عامة حول محاولة خلخلة البنيان السياسي فى السودان، وتليين صلابة الإرادة السياسية وتحطيم النواة السياسية الرئيسية للسودان بصرف النظر عن نظام الحكم القائم، أو السلطة الحاكمة، وذلك – ببساطة شديدة – لأن الاعتداء على أرض دولة -أى دولة- ومحاولة فرض إرادة أجنبية عليها يستحيل على عاقل أن يتصور أنه عمل يستهدف نظام الحكم القائم. أيضاً ربما لعب عنصر الهوية والثقافة دوراً بدرجة ما ولو فى الجانب الخفيّ غير الواضح من ذهن القادة الجنوبيين الذين اعتقدوا خطأً ومنذ أيام الحرب الأهلية الطويلة، أنَّ الاختلاف الثقافى والتبايُن فى الهوية والعرق سبب كافٍ لفصل إقليمهم، ومن غير المستبعد – فى قراءة جديدة – لهذه الرؤية الثقافية القديمة الجديدة – أن يكون شعور الدونية، أو انتشار الثقافة المخالفة وطغيانها ساهم بدرجة كبيرة فى لاشعور القادة الجنوبيين فى الحركة الشعبية ليدفعهم بإتجاه محاولة دفن هذه الهوية وطمرها فى التراب والعودة – من جديد – لمحاربتها ومحاولة الثأر منها قصاصاً من ماضٍ ما يزال يؤلمهم وإن مضي وانقضي. ولعل خير دليل على فرضية العنصر الثقافي وعنصر الهوية هذا، سعي حكومة الجنوب لخلق وإنشاء حزام ثقافي مماثل لها بدعمها لمتمردي جنوب كردفان والنيل الازرق على إمتداد الحدود المشتركة مع السودان أملاً فى أن يصبح هذا الحزام- جداراً عازلاً- ما بين البلدين، فقد بدأ يتضح بجلاء الآن أن رغبة الانفصال العارمة لدي قادة الحركة كان مردّها الأساسي التخلص من السودان بمعطياته المعروفة كافة؛ للتخلص من هاجس ظل يؤرق العديد من قادة الحركة الذين يعانون عقدة ثقافية شديدة التبريح والألم. لهذا يجدون مشقة شديدة فى التحاور مع السودان والتعامل معه، تعامل دولة لدولة، وليس أدلّ على ذلك من أن قادة الحركة الشعبية رفضوا – بإصرار غريب وغير مبرر البتة – سداد رسوم تصدير النفط الجنوبي بالقيمة التى عرضها السودان؛ ليس لأنَّ القيمة المطلوبة تلحق خسارة اقتصادية بموازنتهم العامة، ولا لأنّ القيمة المعروضة غير متعارف عليها دولياً أو بدعة اقتصادية ترهق كاهل الحكومة الجنوبية. السبب الرئيس الذى لم يفصح عنه القادة الجنوبيين أنهم يستكثرون القيمة لكونها تصب فى صالح الاقتصاد السوداني، كما أنهم فى حالة رضاؤهم بسدادها يشعرون وكأنّهم – فى قبضة الدولة الأم – التى يريدون منها فكاكاً. لهذا – وفى هذه النقطة بالذات – دفعوا أثماناً باهظة لإنشاء خط مكلف ومرهق اقتصادياً وأمنياً وعديم الجدوي الاقتصادية ويمرّ بدول لها تقلبات سياسية وتعقيدات قبيلة وأمنية بالغة. كما أهدروا مئات الملايين من الدولارات التى كان من الممكن أن تغنيهم عن كل ذلك لو دفعوها للسودان فى سبيل منع السودان منعاً باتاً من أن يظل الدولة الأم التى تنال فوائداً اقتصادية وتظل فى درجة متقدمة علي بلادهم. الشعور السياسي هنا مختلط بدرجة كبيرة بالمشاعر الشخصية والدوافع الفردية الممعنة فى التواريخ الشخصية والسِيَر الذاتية والأهواء للقادة الجنوبيين. ولكي ندلل على ذلك يمكننا أن نلاحظ بوضوح كيف جاء قرار الهجوم على هجليج بصورة غير منسجمة مع الوقائع التي كانت حاضرة وقتها، وكيف أن النتائج والآثار الكارثية بدت غير محسوبة وغير مُكترثٌ بها، بدرجة أرعبت حلفائهم فى أوربا والغرب عموماً واستغربوا لها غاية الاستغراب، إذ ليست هنالك خطط إستراتيجية لاقتصاد الدولة الجنوبية ولا وجود لأولويات جديرة بالتقدير والاحترام، فالنوازع الخاصة والتصورات العابرة لعبت ولا تزال تلعب دوراً محورياً فى تحركات قادة الحركة الشعبية بحيث لم يهمَّهم البتة خسارة أكثر من مليار دولار فى حرب لا طائل من وراءها مصحوبة بإختلال حاد فى الموازنة العامة للدولة الوليدة، وصلت الى حد تضاعف أسعار الوقود والسلع الأساسية بصورة لم يسبق لها مثيل حتى فى أحلك أيام الحرب. من المؤكد أنّ هذه الأسباب الخفية غير المعلنة والتي يصعب على المراقبين عموماً تصورها، هى العناصر الأساسية الكامنة وراء هذه التصرفات المتناقضة والموتورة.