الأسبوع الماضي أفادت أنباء من العاصمة الأمريكيةواشنطن ان رئيس جمهورية جنوب السودان سلفا كير ميارديت وعبرَ خطاب رسمي وجهه للرئيس الأمريكي أوباما طلب من الإدارة الأمريكية القيام بعملية فرض حظر جوي للطيران السوداني بين حدود الدولتين؛ وفى العاصمة الجنوبيةجوبا تأكد الخبر بلسان وزير الخارجية الجنوبي (نيال دينق نيال) . حيثيات الطلب وأسبابه -كما عبر عنها نيال دينق- هي قيام السودان بزعزعة أمن واستقرار دولة جنوب السودان. الحكومة السودانية من جانبها تأسفت للطلب الجنوبي واعتبرته تصعيداً غير مبرر؛ وإذا أردنا قراءة الطلب الجنوبي بقدر من الإناة والفحص والتدقيق فان أول ما سيلفت الانتباه ان الخطاب موجه الى الولاياتالمتحدة – فى شخص الرئيس أوباما – و ليس موجهاً الى الأممالمتحدة او مجلس الأمن، إذ من المعروف بداهة ان واشنطن حتى ومع كونها قوة دولية إلا أنها ليست منظمة دولية يُشتكي لها ويُحتكم إليها ويُطلب منها إنزال العقاب؛ وإذا قلنا ان جوبا ربما كانت تطلب من واشنطن قيام الأخيرة بتبني قرار بهذا الصدد يتم تقديمه الى مجلس الأمن وليس فى صيغة مشروع قرار، فان مثل هذه الخطوات عادة تتم فى السر وليس فى العلن ولا عبر مكاتبات رسمية بهذه الصورة. الامر الثاني الذى يستلفت الانتباه ايضاً ان مثل هذه الطلبات فى العادة يقررها مجلس الأمن الدولي فى أعقاب تداوله حول شكوي رسمية ثبتت عناصرها، والمعروف ان دولة جنوب السودان لم تثبت شكوي رسمية لها مدعمة بأدلة أمام منضدة مجلس الأمن ولم يجر تداول حتى الآن فى هذا الصدد، بل على العكس تماماً، فان الذى يملك شكوي رسمية مدعمة بأسانيد وأدلة قاطعة هو السودان بدليل ان واشنطن – وفى سبيل تحاشى مناقشة هذه الشكوي – طالبت حكومة جنوب السودان علناً ورسمياً عبر نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي الذى سافر الى جوبا بصحبة الموفد الأمريكي الخاص الى السودان، بالكف عن دعم متمردين سودانيين ضد السودان. كان واضحاً ان الأمر الأمريكي الموجهة بصرامة واضحة الى الحكومة الجنوبية يحمل فى طياته ضمناً تحذيراً من واشنطنلجوبا بخطورة موقف الأخيرة إذا ما جرت مناقشة الشكوي السودانية ضدها؛ ما يُستفاد منه أن المطالبة الجنوبية بحظر الطيران لا تعدو كونها مجرد تخويف او تهويش سياسي او على أفضل تقدير محاولة تغيير السياسة والمواقف الايجابية التي تتخذها واشنطن هذه الأيام تجاه الخرطوم، ذلك ان ما يوغر صدر جوبا ويغض مضجعها أن تري واشنطن تبتسم فى وجه الخرطوم ولو على سبيل المجاملة. الامر الثالث أنه وعلى فرض استجابة واشنطن للمطلب الجنوبي بحظر طيران فى حدود البلدين، فعلي أية كيفية وبأي قياس سيجري الامر ونحن نعلم ان ملف الحدود لم يتم حسمه تماماً بين البلدين، وهو ضمن الملفات العالقة وواشنطن لا تفوتها هذه النقطة وان غابت وفاتت على الحكومة الجنوبية! إن من المفروغ منه ومما لا يحتاج الى إشارة منا هنا، ان مقتضي هذا الطلب مهما عملت جوبا على تغليفه ومداراته هو توفير حماية لمتمردي جنوب كردفان والنيل الازرق، وهو ما يثبت بجلاء حرص جوبا الكامل على دعم هؤلاء المتمردين فى صراعهم الدامي مع الخرطوم والذى شارف على الانتهاء بعد الضربات القوية التي تلقاها المتمردون هناك وأفضت بهم ليصبحوا ضيوفاً على الحكومة الجنوبية وقد فقدوا كل شيء، الارض والسلام والسياسة وعنصر المبادأة، فما خسرته جوبا على مائدة جنوب كردفان والنيل الازرق -فى الرهان الخاسر- تريد استعادته عبر تحريك الآلة الأمريكية, وهو أمر يمكن اعتباره فى حكم المستحيل لأن واشنطن وفوق ما أكدته مؤخراً من أنها لا تود إسقاط الحكومة السودانية ولا تشجع العمل المسلح ضدها، فهي شديدة التردد حيال القيام بأى عمل عسكري منفردة أو فى إطار الناتو؛ وقد رأينا كيف ترددت وعملت مكرهة فى خاتمة المطاف في ليبيا، مما يُستشف منه انه لم يعد يروقها مثل هذا التحرك بصرف النظر عن الدواعي والأسباب . وأخيراً فان جوبا بالنسبة لواشنطن – ورغم المصالح الأمريكية المهمة فيها – ليست بالقدر الذى يدفع واشنطن لكل هذه الدرجة من المخاطرة، ففي العلاقات الدولية لا تسمح القوي الكبري لمن هم اقل منها باستخدامها فى مناورات ومغامرات وحسابات غير دقيقة.