لدي مخاطبته الجلسة الختامية للمؤتمر الدولي لجنوب السودان الذى انعقد مؤخراً بالعاصمة الأمريكيةواشنطن قال السيناتور جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأمريكي، إن بلاده لن تسمح للسودان بقصف المدنيين بجنوب كردفان والنيل الازرق، مشيراً الى ان الحكومة السودانية انحرفت عن حلحلة قضايا من وصفهم بالمهمّشين وطفقت تقصفهم وتمنع وصول المساعدات إليهم. الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت من جانبه أعاد إتهام بلاده للخرطوم بدعمها لمليشيات تنشط ضد دولة جنوب السودان طالباً منها الكف عن هذا الدعم. الصورة بهذه المثابة تبدو غريبة ومضطربة، فالسيناتور كيري لا يملك الحق فى الحديث عن مناطق جنوب كردفان والنيل الازرق وكأن عضويته فى الكونغرس تمتد ظلالها لتظل سماء هاتين المنطقتين، وكما ان واشنطن درجت على الافتخار والاعتزاز بديمقراطيتها، فإن هذه الديمقراطية الأمريكية تقتضي ألاّ يمثل أحد من لم ينتخبه او يفوضه، كما تقتضي التوازن فى تناول شأن خاص بمنطقة (خارج حدود الولاياتالمتحدة) . قد يقول البعض ان العقلية الاستعمارية لواشنطن ولبعض الدول الأوربية درجت على هذا المسلك ومن ثم أصبح مسلكاً معتاداً وقد يقول بعض آخر أن واشنطن – كقوة عظمي – ما عادت تأبه بسيادة الدول الأخري، ويحلو لها أيما حلاوة حشر أنفها فى كل شأن خارجي لدرجة أن أحداً ما عاد يستدعي سفرائها ليبلغهم احتجاجه على تدخلها السافر فى الشأن الداخلي لبلاده. كل هذا صحيح، ولكن الأمر فى هذه الحالة يختلف فنحن أمام سيناتور فى برلمان عريق يفترض فيه مراعاة واحترام التقاليد والأعراف الدولية، ولعل أبسط هذه التقاليد الواجبة المراعاة هو ألا يتم إطلاق التُهم على الهواء هكذا بدون أدلة، ولو صحّ ان الحكومة السودانية قصفت أو لا تزال تقصف مدنيين فى المنطقتين – جنوب كردفان والنيل الازرق – فهذا شأن مكانه الأممالمتحدة والتي هى نفسها – مع كونها صاحبة الاختصاص – لم توجه هذا الاتهام الى السودان، وحتى لو وجهته لا تملك دليلاً عليه. السيناتور كيري – الذى تزيّا فى تصريحاته هذه بزي الجنرالات – كان يطلق حديثاً على عواهنه مما قلل من الاحترام حياله، ونسي الرجل الذى سبق له زيارة السودان أيام استفتاء جنوب السودان لعدد من المرات وأقرّ بأن كل شيء على ما يرام، أن واشنطن هى التى حذرت جوبا عبر نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي من مغبة دعم المتمردين ضد الحكومة السودانية، ونسيَ ايضاً ان للسودان حتى الآن أكثر من شكوي أمام منضدة مجلس الأمن الدولي موثقة ومدعمة بالأدلة ضد جوبا تنشط السيدة رايس هناك فى عرقلتها وإبقائها تحت المنضدة. كانت الصورة شائهة الى حد كبير حين انبري كيري للدفاع عن جنوب كردفان والنيل الازرق عبر اتهامات غير مثبتة، بما يخالف ذهنية رجال التشريع خاصة اذا كانوا بدرجة رؤساء لجان، وفى الوقت نفسه جلس ليستمع للرئيس كير ليوجه اتهاماته هو الآخر الى الخرطوم بدعم مليشيات ناشطة ضد جوبا. لقد كان الرجلين يتبادلان الأدوار على نحو فج وباهت؛ حدث كل ذلك مع أن المؤتمر الذى تحول الى منصة اتهام وكان مخصصاً لإجتراح السُبل الكفيلة بمعالجة قضايا دولة جنوب السودان الوليدة. وحدث كل ذلك بينما كانت الأممالمتحدة، وفى مدينة لا تبعد كثيراً عن واشنطن تطلق صافرات الإنذار من عاصفة مجاعة عاتية تعصف بثلث سكان دولة جنوب السودان لتحيلها الى دولة أشباح، تتناثر فيها الجثث والأجساد الواهنة فى كل الأرجاء مختلطة بجثث القتلى جراء المعارك القبلية الدائرة بضراوة منذ أشهر طوال. لقد بدا وكأنَّ أسباب المجاعة الطاحنة فى دولة جنوب السودان والأوضاع السيئة هناك هى من صنع الخرطوم، كما أن أحداً لم يستطع ان يستوعب طبيعة الرباط ما بين أزمات دولة الجنوب التي كان على المؤتمر الدولي حلحلتها وما بين ما يجري فى جنوب كردفان والنيل الازرق! ففي الوقت الذى انعقد فيه المؤتمر لتناول الشأن الجنوبي أقحم السيناتور كيري (شأناً سودانياً خالصاً) وربما كان هذا هو الأسلوب الأمريكي الأمثل لحلحلة قضايا دولة جنوب السودان! والذي يمكن وصفه بأنه قام على أساس منطق أقرب الى منطق ولغة الطير!