حضرت خلال هذا الأسبوع ندوة شارك فيها عدد من أساتذة الجامعات الأمريكية، وكان موضوعها ثورات الربيع العربي، وكنت حريصا خلال هذه الندوة أن أسمع آراء هؤلاء الأكاديميين الأمريكيين في هذه الثورات قال أحد المتحدثين عبرت هذه الثورات في مجملها عن سخط الجماهير العربية على النظم الدكتاتورية التي جثمت على صدورها عدة عقود، لكن المسألة لا تنتهي في نظر هذا المتحدث عند هذا الحد إذ هو يرى أنه من المهم أن يكون هناك تصور معقول لما سيحدث بعد ذلك، وهو لم يبادر بتحديثنا عما سيحدث، ولما سألته عن الموقف الأمريكي من هذه الثورات، قال لا شك أن الموقف الأمريكي هو الآن في اضعف حالاته، بكون النظم التي أسقطها الربيع العربي والمرشحة للسقوط هي من النظم التي وجدت دعما من الولاياتالمتحدة التي تتعامل الآن بشيىء من الحذر مع واقع جديد، عند ذلك تساءل أحد المحاورين عن مدلول صعود الحركات الإسلامية الذي حدث أخيرا في بعض البلدان العربية، فقال الأستاذ الأمريكي ما هو معروف هو أن أي تغيير يحتاج إلى شيىء من التنظيم، والتنظيم في ظروف العالم العربي لم يكن موجودا إلا بين الاتجاهات الإسلامية التي كانت في المعارضة على مدى طويل، وبالتالي فإن صعودها على هذا النحو الكاسح كان بسب غياب الآخرين أكثر مما هو بسبب أنها البديل الوحيد المرشح للتغيير وذلك على الرغم من قول قادتها إنهم سيتعاملون مع كل الاتجاهات بانفتاح. ولما تطرق الحديث إلى مصر قال الأستاذ الأمريكي أعترف أن أي تحول في العالم العربي لا بد أن يبدأ من مصر، لكن الوضع في مصر غير مهيأ لذلك في هذه المرحلة ليس بسبب صعود اتجاه واحد بل لأن مصر فيها كثير من المتناقضات، وعندما سئل عن تلك المتناقضات قال إن مصر فيها الحداثة والتيارات التقليدية، وفيها العلم والأمية وفيها المشروعات الاقتصادية المتطورة وفيها الفقر والتخلف بل فيها كثير من المتناقضات التي تعيش جنبا إلى جنب دون أن يكون هناك نظام دولة موحد يقرب بينها. وعندما سئل عن موقف الولاياتالمتحدة من القوى الصاعدة الآن في مصر قال إن الأمريكيين ليس أمامهم خيار سوى أن ينظروا إلى الجوانب الإيجابية عند هذه القوى. ويبدو في ضوء ذلك أن الكثيرين أصبحوا الآن مقتنعين بأن التحرك الجماهيري كان لا بد منه، ولكنهم غير متأكدين من الصورة التي يكون عليها الوضع لأن الكثيرين لم يتعايشوا مع نظام الدولة كما هو سائد في البلدان المتقدمة، وذلك ما يدعونا للتوقف عند الأسس التي يقوم عليها ذلك النظام. ما هو معروف هو أن أي نظام دولة يجب أن يقوم على أساس اقتصادي، لكن الأساس الذي يقوم عليه نظام الدولة في الواقع الديمقراطي غير ذلك الذي يكون في النظم الدكتاتورية، ذلك أن النظم الدكتاتورية تحسن رفع الشعارات غير المؤسسة على واقع سليم، فهي تخبر الناس على سبيل المثال أن الثروة القومية تسيطر عليها مجموعة معينة من الناس وأن السبيل الوحيد لاستفادة الشعب منها هو استعادتها وتوزيعها على أغلبية الناس، لكن الثروة في نهاية الأمر لا توزع بل تقام المشروعات المؤممة التي تسيطر عليها نخبة من المنتفعين تستولي على الأموال التي تحولها إلى مصلحتها الشخصية ثم تخرجها من الدورة الاقتصادية عن طريق تحويلها إلى خارج البلاد. لكن في الواقع الديمقراطي السليم يكون الأمر غير ذلك، ذلك أن امتلاك بعض الأفراد للثروة لا يشكل تهديدا للآخرين، فالملايين التي يملكها بعض الأفراد لا تكون في جيوبهم ولا تودع في المصارف الأجنبية بل تكون في المصارف الوطنية وداخل الدورة الاقتصادية بحيث ينتفع منها كل الأفراد في المجتمع، وبالتالي يغضب هؤلاء الأفراد امتلاك القلة ثروات كبيرة بكون الثروات موظفة عن طريق النظام المصرفي للمجموع، وفي هذا الواقع يستطيع أصحاب المشاريع الاقتراض من المصارف لإقامة مشروعاتهم وبالتالي يلتزمون بدفع الضرائب التي تساعد على إقامة النظام الاجتماعي الذي يستفيد منه سائر أفراد المجتمع، وعندما يتأسس مثل هذا النظام الاقتصادي فلا تجد في المجتمع مجموعة تحاول الاستئثار بالسلطة من أجل التحكم في المقدرات بل تجد مؤسسات يخدمها أشخاص لهم مصلحة في تقدم المجتمع، وبالتالي تتكون الأحزاب ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية وتتلاشى الأحزاب ذات الطبيعة القبلية والطائفية والجهوية. ولكن هذا الواقع يحتاج إلى ثقافة عريضة وهي ثقافة لا تكونها النظم التعليمية السائدة في العالم العربي، ذلك أن هذه النظم المدرسية لا تهدف إلى تقدم المجتمع بل تهدف فقط إلى توصيل الأفراد للحصول على الدبلوما التي يدخلون بها إلى الوظائف العامة من أجل تكريس طبقية المجتمع، وهذا اتجاه بدأ الآن يتغير من خلال مؤلفات كتاب مثل 'إيفان إليش' مجتمع بلا مدارس ومؤلف 'درو' مرض الدبلوما، فالمؤلف الأول يقول لا فرق بين المدرسة القديمة والسجن فهي تحتفظ بالطلاب فترات طويلة من الزمن لا تنمي خلالها عقولهم بل تملأها بمعرفة قد تكون ضارة بهم، وأما المؤلف الثاني فقد وصف الشهادات التي يحملها الخريجون بأنها مرض لأنها تقسم في نهاية الأمر المجتمع إلى طبقات، وهذا الواقع بدأت تتخلص منه كثير من الدول الغربية التي لا تهتم فقط بما يحمله الإنسان من شهادات بل تهتم بما يجيده الإنسان من خبرات. وفي ضوء ما ذكرناه سابقا فإن ما يحتاجه العالم العربي من أجل التغيير هو تحول ثقافي شامل، إذ لا يكفي فقط إسقاط نظم حكم سلطوية دون معرفة البدائل لها. ولكننا نعترف في الوقت ذاته إن مثل هذه التطورات الحادثة في العالم العربي قد تزيد الأمور تعقيدا عندما تعتقد بعض النظم أنها أصبحت مهددة وبالتالي يجب أن تتخذ إجراءات وقائية، وهي إجراءات قد تزيد الأعباء دون أن تحقق ما تصبو إليه الشعوب العربية . لكن إذا ما نجحت الدول العربية في إقامة نظام الدولة الحديثة فإنها ستوجد حالة من الاطمئنان بين بعضها بعضا وبالتالي ستقترب من توحيد مصالحها من خلال المشروعات المشتركة، تماما كما يحدث في الواقع الأوروبي الآن إذ ما الذي يجعل الدول في أوروبا تشارك في الاتحاد الأوروبي بينما الدول العربية التي بينها وشائج أقرب لا تستطيع تكوين اتحادات من هذا القبيل؟ الإجابة ببساطة هي أن إقامة نظم الدولة في العالم الغربي تجعل الجميع يتحركون وأمامهم صورة اقتصادية واضحة المعالم وليس هذا حال الواقع العربي لأن انتفاء نظام الدولة فيه يجعل الكثيرين يتخوفون من المشاريع المشتركة وبالتالي لا يقبلون بفكرة المشاركة مع بعضهم بعضا فيها. وإذا تساءلنا مرة أخرى كيف يتجاوز العالم العربي هذا الواقع وجدنا الإجابة في شيىء واحد وهي ضرورة أن يحدث تحول ثقافي في العالم العربي، وألا يكون هذا التحول عند فئة محدودة من الناس بل يجب أن يكون ثقافة عامة عند سائر المواطنين تدعمها نظم معرفية متطورة تحرك العقول ولا تقف عند الشعارات والمفاهيم التي تقوي من دعائم التخلف الفكري، وهي دعامة لا تقف عند أسس نظرية بل يجب أن تكون مصحوبة بتجربة عملية، فالنظريات وحدها لا تحقق النتائج وأكبر دليل على ذلك ما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق الذي بشر العالم بعصر الجماهير فإذا به ينهار دون أن يجد من يأسف عليه لأن سائر الأفكار التي قامت عليها فلسفته كانت خطأ وهي لا تكون مقنعة إلا عند أشخاص لا يمتلكون مستوى عاليا من الثقافة. المصدر: القدس العربي 19/1/2012م