قبل أن تنخفض حرارة التساؤلات بشأن الحريق الأول الذي التهم مكتب سلفاكير رئيس الحركة الشعبية وجمهورية جنوب السودان، أتت نيران الحريق الثاني على مكتب باقان أموم الأمين العام لذات الحركة، لتتضاعف حرارة التساؤلات ثانية مع تصاعد حرائق العاصمة جوبا التي تأتي على مكاتب قادة الحركة الشعبية، وتأتي على تلك الوثائق بالغة السرية والحساسية، التي ربما كانت تحوى الكثير من التفاصيل التنظيمية، والمالية، والسياسية. الحريق الأول وصف بأنه هائل، شب قبل أيام قليلة داخل منزل الجنرال سلفاكير ميارديت زعيم الجنوبيين، الذي يقع في حي العمارات بالعاصمة جوبا، والتهمت النيران مكتب الرجل الذي غادر المنزل مع أسرته عقب الحريق، وقال شهود عيان إنهم رأوا ألسنة اللهب تتصاعد من منزل الرئيس، ورجح بعضهم أن يكون الحادث قد وقع بسبب (سيجارة) أحد الحراس، أو بسبب تماس كهربائي قاد لإحراق مكتب الرئيس. أما الحريق الثاني، فقد شب في الساعة الثانية من ظهر الجمعة الماضية، بمقر الأمانة العامة للحركة الشعبية قرب مطار جوبا، وأتى على صالة الاجتماعات، وطال مكتب باقان أموم بحسب صحف الخرطوم، ما أدى إلى احتراق وثائق وأوراق حساسة، يتعلق بعضها بالحسابات المالية، وتم تفسير الحادثة على طريقتين، الأولى هي طريقة الحادث العرضي جراء تماس كهربائي من جهاز التكييف في صالة الاجتماعات بالأمانة العامة، والثانية هي إشعال النيران عن عمد في مكتب باقان أموم. الحريقان، حريق منزل سلفاكير وحريق الأمانة العامة للحركة الشعبية قرب مطار جوبا، يعتبرهما البعض مؤشراً لتصاعد الصراعات داخل الحركة الشعبية، ونقلت تقارير إعلامية في الخرطوم عن عضو في برلمان الجنوب القول بأن إحراق بيت سلفا رسالة من قبل مجموعة من المعارضين لتوجهات الجنرال، ممن يرغبون في تصفيته وإزاحته عن سدة الرئاسة، بينما نقلت تقارير أخرى عن زعيم جنوبي متمرد قوله بأن إضرام النار في الأمانة العامة أعقب خلافاً بين د.رياك مشار نائب رئيس الحركة وحكومة الجنوب، وبين باقان أموم، تطور إلى شجار بالأيدي بين القياديين، ثم تحول لاحقاً إلى ألسنة من اللهب. سيناريو تبادل مراكز النفوذ الجنوبية للرسائل الملتهبة عبر إضرام النيران في المكاتب والمنازل، وإن بدا سينمائياً بعض الشيء، لكنه يستمد جاذبيته من الصراعات المعروفة بين سلفا من جانب ومشار من جانب آخر، صراعات بلغت حد إقدام سلفا أكثر من مرة على اتهام نائبه بعدم تنفيذ توجيهاته، وتأسيس حكومة خاصة داخل حكومة الجنوب، إلى جانب نزاعات أخرى بين مشار وباقان، وبين قبيلة النوير وقبيلة الدينكا، وبين الدينكا وغيرهم من القبائل، فالجنوب يرقد على بحر من التناقضات القبلية والإثنية الصارخة، التي أسهم (النضال المشترك) ضد الشمال في إخفائها، قبل أن تنفجر على شكل حروب قبلية صغيرة ومتوسطة في الآونة الأخيرة. تفسير آخر أعقب الحريق الثاني في الأمانة العامة للحركة، يحاول تقديم إضرام النار في مكاتب الحركة الشعبية باعتباره وسيلة لإخفاء الوثائق والحقائق التي يمكن أن تطلبها لجان التحقيق، وتم ربط هذا التفسير بالاتهامات التي وجهها آرثر كوين وزير المالية السابق، وابن قبيلة الدينكا، إلى باقان أموم ابن قبيلة الشلك، وزعم فيها أن باقان استولى على ملايين الدولارات في عملية فساد، ويمكن لإضرام النار في مكاتب الحركة أن يكون محاولة لطمس معالم تلك العملية الفاسدة، أو أية عمليات أخرى محتملة، ويبدو هذا السيناريو أضعف من غيره، لكون إخفاء وثائق العمليات المشبوهة، في جوبا أو الخرطوم أو أي مكان، أمراً لا يحتاج بالضرورة إلى إشعال حرائق قد تجذب من الأنظار والتساؤلات والفرضيات أكثر مما تدرأ من تهم وتحقيقات وشبهات، بل يمكن القيام به بصمت وسط الظلام، دون إحداث ضوضاء أو إثارة الاهتمام. بالمقابل، يبدو سيناريو الحوادث العرضية غير المدبرة قوياً بدوره، فالقدرات الفنية للجنوب ضعيفة ومحدودة كما هو معروف، ومن المحتمل أن يكون كلا الحريقين، وحرائق أخرى قد تندلع، ناجمة عن ضعف القدرات الفنية في مجال التوليد والنقل والتحكم الكهربائي، وعدم قدرة المسئولين عن كهربة منزل سلفاكير ومقر الحزب الحاكم في الجنوب على ضبط الطاقة الكهربائية والتحكم في تردداتها وقياس مقاومة الأسلاك المعدنية وقوة التيار الكهربي..! الحرائق وألسنة اللهب ليست قاصرة على الجنوب وحده كما يقول أتيم قرنق البرلماني الجنوبي والقيادي بالحركة الشعبية، فالبيت الأبيض احترق أكثر من مرة آخرها قبل فترة ليست بالطويلة، وفي داخله أزرار التحكم في الصواريخ النووية، ومنزل سلفا والأمانة العامة يعتمدان على كهرباء يتم توليدها من المولدات الصينية ذات الجودة المنخفضة، التي تم شراؤها أيام السودان القديم، ويتابع: هذه المولدات ربما كانت مسئولة عن الحرائق، لكننا سنشترى مولدات جديدة ذات كفاءة عالية من الدول الغربية كأمريكا وبريطانيا، فنحن لم نعد نخضع لأية عقوبات. سيناريوهات الصراعات وتبادل إضرام الحرائق بين الجنوبيين مجرد أحاديث تخلقها استخبارات الشمال كما يرى أتيم، ويتابع: لو فرضنا أن مشار وباقان تشاجرا بالفعل، فهل يعنى هذا أنهما سيقومان بتخريب مكاتبهما، لقد زرت الأمانة العامة عصر الجمعة بنفسي ومكتب الأمين العام باقان لم يحترق وكذلك مكتب رئيس الحزب سلفا لم يحترق، بل احترقت صالة الاجتماعات التي بدأ منها الحريق ثم انتقل إلى مكتب الحسابات، وكل المستندات والأوراق وخزائن الأموال سليمة، ولم تتلف سوى موجودات صالة الاجتماعات، لكن البعض في الشمال يريد أن يوهم المواطن الشمالي بأن هناك صراعا شديدا في الجنوب، ليفسر موقفه في ملف النفط وغيره من الملفات. الحرائق تشتعل في الكثير من الدول والمؤسسات بالفعل، لكن الاعتماد على المولدات الصينية ذات الجودة المنخفضة أو العالية لإمداد المؤسسات بالطاقة أمر لا يحدث في كل الدول كما يقول البعض، وحتى في الشمال يتم استخدام المولدات الكهربائية لكهربة المؤسسات عند الضرورة وليس بشكل دائم وثابت، ما يعني أن تلك الحرائق التي اشتعلت في مقر الحركة الشعبية وفي بيت زعيمها، تسلط الضوء بصورة أو أخرى على واقع افتقار الدولة الناشئة للبنى التحتية، والخبرات الفنية والتشغيلية اللازمة لتسيير أمور الدولة والمجتمع. ضعف الجنوب الناجم عن التناقضات القبلية والسياسية أو عن الافتقار للخبرات والقدرات الفنية والبنى التحتية، يعتبر أحياناً في مصلحة الشمال، على اعتبار أنه يجعل من القيادة في جوبا ضعيفة وغير قادرة على مواجهة الشمال سياسياً ناهيك عن مواجهته عسكرياً، بينما يعتبر آخرون ذاك الضعف في بنية الدولة الجديدة خصماً على الشمال، على اعتبار أن العديد من التجارب الدولية تؤكد أن الفقر والفوضى وعدم الاستقرار أمراض عابرة للقوميات والحدود. يرى البعض أن الحرائق في الجنوب لا تهم قراء الصحف الشماليين كثيراً، فماذا يضيرهم لو احترق بيت سلفا أو التهمت ألسنة اللهب مكتب باقان، على اعتبار أن تلك النيران والحرائق تشتعل بعيداً عن الخرطوم بمئات الكيلومترات، ولا يمكن لألسنتها أن تصل إلى الشمال، في المقابل يؤكد آخرون أن النيران التي تشتعل في جسد الحركة الشعبية بجوبا، سهواً أو عمداً، ربما تحرق جسد الشمال أيضاً، حينما تزيد تلك النيران الجنوبية الداخلية من سخونة المفاوضات مع الشمال، أو ترفع درجات الحرارة في علاقة جوبا مع المعارضة المسلحة في دارفور وجنوب كردفان..! نقلا عن صحيفة الرأي العام السودانية 19/2/2012م