مازالت زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى جوبا لعقد قمة مع رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت حول الملفات الخلافية العالقة بين البلدين، محل شك وتردد رغم إعلان البشير نفسه أنه ماض في الأمر حتى نهاية الشوط ويبدو أن الخرطوم شرعت بهدوء في اتخاذ تدابير لا تشير إلى تراجع عن القمة، لكنها تلمح إلى إمكانية تأجيلها أو معالجة الأمر بطريقة ما، فوسط خضم تصريحات لمسؤولين وقياديين في الحزب الوطني الحاكم، تدعو بقوة لإثناء البشير عن السفر إلى جوبا حفاظاً على حياته، بدأت أول قطرة رسمية في وعاء التراجع من وزارة الخارجية، حيث أعلن الناطق الرسمي باسمها العبيد مروح، إمكانية التأجيل، ثم توالت القطرات، بإعلان شروط هي أن تحسم الملفات الأمنية قبل زيارة البشير، وهو ما دفع للظن بأن أمر الزيارة عاد إلى مهب الريح، بعدما بدأ الأسبوع بتأكيدات قوية، فالملف الأمني كما يرى مراقبون، هو قاصمة ظهر أية مباحثات أو اتفاقيات سودانية، سواء على صعيد الجنوب الذي لاذ بانفصاله، أو على صعيد الحركات الدارفورية، التي لم تغادر عباءة الوطن، لكنها تتحرك في جيوب أمنية، عجز عن إغلاقها والحال كذلك، تبدو “الأمنية" سواء كانت ترتيبات أو ملفات، شرطاً تعجيزياً، أفلح في انهيار مباحثات سابقة بين السودان والجنوب، وترك الملف وفقاً لتصريحات رئيس وفد الحكومة إلى أديس أبابا، لقمة الرئيسين البشير وسلفاكير، لفشل الطرفين في الوصول إلى اتفاق حوله، لتأتي الخرطوم وتلوح به شرطاً ربما أفسد الاندفاع الكبير نحو جوبا في زيارة محفوفة المخاطر، وفقاً لرسميين وقياديين . في السياق، رهن حزب “المؤتمر الوطني" الحاكم، زيارة البشير بمستجدات الأوضاع الأمنية وتطبيق الملف الأمني على أرض الواقع بسحب القوات، ووقف التدريب والتشوين العسكري وطرد الحركات المسلحة، وكشف في الوقت نفسه أن لجنة أمنية ستحدد في اجتماعاتها زيارة رئيس الجمهورية للجنوب . وتأتي القطرة الثالثة، هذه المرة، لتصب في وعاء العقبات، بشرط الخرطوم أن يرفع وفد المباحثات في جولة “أديس أبابا" التنسيقية السبت المقبل، إلى مستوى وزاري، وهو ما دفع إثيوبيا إلى إرسال وفد إلى جنوب السودان للتدخل لدى القيادة في جوبا لتحقيق ذلك الشرط، وتزامنت الوساطة الإثيوبية مع مبادرة كينية، أعلنت حرصها الشديد على إنجاح قمة جوبا . بيد أن مسؤولين في الخرطوم، أعلنوا صراحة أنهم خلعوا نظاراتهم السوداء، لتحقيق رؤية جديدة لكل الأجواء التي تحيط بزيارة البشير إلى جوبا، وأشاروا إلى تحرك محموم بدأ غريباً، من جهات عديدة، خارج السودان لإنجاح الزيارة، وهم يدخلون واشنطن في مجال الرؤية حين يلمحون إلى نداء نادر وجهته الأخيرة إلى جوبا بوقف العدائيات في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وحرص القائم بالأعمال الأمريكي لدى الخرطوم، الإعلان عن اتصالات تجريها بلاده مع الحكومة التركية لتحديد موعد جديد لإقامة مؤتمر اسطنبول بشأن السودان، وهو عكس ما فعلته لإفشال المؤتمر وقد نجحت في ذلك، قبل إعلان زيارة البشير إلى جوبا، كما أشار المسؤولون بدبلوماسية إلى الجوار الإقليمي وحرصه على الزيارة . ومع أن زيارة أخرى مرتقبة للبشير، تبدو أكثر خطورة وأهمية، إلى العراق لحضور القمة العربية، إلا أنها لم تحظ باهتمام القيادات السياسية الحكومية، كما فعلت زيارة جوبا المرتقبة، وسط تقارير متلاحقة تناشد الرئيس بعدم السفر إلى جوبا، وإن دعا الأمر بإرسال نائبه علي عثمان محمد طه، قائلة إن غياب البشير عن المسرح السياسي في هذه المرحلة، سيدخل السودان في أنفاق مظلمة لن يخرج منها إلا ممزقاً . ويبدو وعاء العقبات مملوءاً عن آخره، حين يدلق مسؤول وزاري تراجعاً عن تصريحات حول ثقة الخرطوم بحكومة الجنوب، ويوضح في رسالة لصحيفة محلية نشرتها أمس، أن ما نُسب له من قول إن “الثقة متوافرة بحكومة الجنوب" هي استنتاج منتقى من قوله “إن حكومة الجنوب لن تذهب إلى ما يقوله البعض من اعتداء أو اعتقال البشير عند زيارته لجوبا" . ويضيف أمين حسن عمر، وزير الدولة في رئاسة الجمهورية “إن زيارة البشير إلى جوبا في الموعد المحدد المعلن سابقة لأوانها . وهي ضرب من ضروب حرق المراحل، فنحن لا نزال في مرحلة أولية من بناء الثقة، فكيف نذهب للمحطة الأخيرة التي نستأمن فيها حكومة الجنوب على سلامة رئيس السودان بعد أن صرح رئيسها أن عليه تسليم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية، وبخاصة بعد بيان ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني بدولة الجنوب الداعية لاعتقال البشير وتسليمه للجنائية . ويشدد عمر، على ضرورة إخضاع أمر رحلة الذهاب هذه إلى نظر عميق في أجهزة الحزب والدولة . والأفضل الاتفاق مع حكومة الجنوب على عقد القمة في أديس أبابا كما كان المقترح الأول . ويشير إلى أن حكومة الجنوب قد أخطأت في اختيار من ترسله للخرطوم لدعوة الرئيس فهي أرسلت صقورها بدل الحمائم . وإذا كان مقصودها هو إظهار حسن النية، فإن للأمر وجهاً آخر عند من يتوجسون الشر من باقان أموم، الذي لم يوفر سانحة إلا واستثمرها في إبداء سوء ظنه وسوء تفكيره تجاه السودان . انتهى حديث المسؤول السوداني لكن، قطرات العقبات لم تتوقف، وشرعت الخرطوم في ندوات وأحاديث وتنويرات حول الزيارة، حتى إن المراقب قد يتساءل: هل الزيارة هي الهدف، أم هي وسيلة لتحقيق أهداف القمة المرتقبة؟ نقلا عن دار الخليج 27/3/2012