تقول الحكمة القديمة: "إذا كنت قاضياً وجاءك من يشتكي وعينه مفقوءة فلا تحكم له فربما كان الآخر عيناه الاثنتان مفقوءتان". ويبدو أن الحزب الشيوعي السوداني قد فقد عينيه الاثنتين على إثر رحيل قائده التاريخي محمد إبراهيم نقد في إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية لندن في الثاني والعشرين من مارس الحالي، مما فتح الباب واسعاً حول خلافة الراحل نقد من سكرتارية الحزب الشيوعي. ورغم إن خلافة أي من زعماء الأحزاب عند رحيلهم تتسبب في نزاعات داخلية في الحزب المعني إلا أنها عند الشيوعيين تُصبغ بألوان متعددة حمراء وصفراء ورمادية! ففي العشرين من سبتمبر 2011م عقدت سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اجتماعاً طارئاً يوم الثلاثاء الموافق 20/9/2011م بالمركز العام للحزب بالخرطوم (2) حضره (سبعة) من القيادات وكان (الجند) الرئيس والوحيد للاجتماع هو مناقشة إعفاء السكرتير العام محمد إبراهيم نقد من الأعباء السياسية والتكاليف التنظيمية!. وقد خرج هذا الاجتماع العاصف بقرارات منها ضرورة إعفاء نقد من هذه المهام نظراً إلى أن الزعيم يعاني من أزمات قلبية وفقاً لتقارير طبية سابقة... وسنرى من خلال هذا السرد الذي رواه لي شيوعي عجوز وفي حكم المنشقين والمغضوب عليهم حيث تناولت معه الشاي والقهوة في منزله العامر بحي الصفا في أمسية امتدت إلى أطراف الليل.سنرى كيف سار هذا السيناريو.. قال لي محدثي أن تفكير الحزب الشيوعي في تنحية الزعيم خلال هذا الاجتماع واجهته مصاعب نسبة لانتخابه من قبل المؤتمر الخامس والسكرتارية لا تستطيع تغيير هذا القرار إلا بمؤتمر عام للحزب. و"للمخارجة" من هذه الورطة قرر الاجتماع أن يعفي نقد من حضور الاجتماعات التنظيمية المتمثلة في اجتماع المكتب السياسي واجتماع سكرتارية اللجنة المركزية التي تُعقد بصورة دورية إضافة إلى قرار آخر بحضور محمد إبراهيم نقد كل دورات اللجنة المركزية وأن تصل إليه كل مقررات الاجتماعات التي لا يحضرها. وكان من المتوقع حسب القيادي الذي جلست إليه أن المؤتمر السادس الذي كان من المقرر له أن يُعقد خلال عامين سيأتي بقائد جديد للحزب. بعد أن جذب محدثي "نفساً عميقاً" من سيجارته قال ضاحكاً المهم مضى في شرحه قائلاً: الحزب أخفى حقيقة مرض نقد وحرص على عدم تسربه للرأي العام حتى لا يفتح ذلك باب الاجتهادات مبكراً حول من يخلف نقد، لأن هذا الموضوع لو تمت إثارته في ذلك الوقت سيربك خطط وبرامج الحزب الذي يعاني أصلاً من تصدعات وتشققات في جداره التنظيمي والفكري على حد سواء. وبما أن حقيقة مرض نقد أصبحت من الأسرار التنظيمية للحزب وعمل على إخفائها حتى لا تشكل صداعاً مبكراً فقد تسرب الأمر بصورة غير مقصودة في إحدى رحلات السكرتير العام الراحل غير المعلنة إلى خارج البلاد قبل رحلته الأخيرة إلى لندن مما حدا بالقيادي الشيوعي المقيم في لندن "ص.ب" أن يتهم زوجة قيادي شيوعي وكادر تنظيمي مقيم هناك بأنها سربت خبر مرض نقد من غير وعي منها في جلسة ضمت أسراً سودانية رجالاً ونساءً في أحد المنتجعات وقال القيادي "ص.ب" للكادر الآخر "شفت ثرثرة زوجتك وصلت لحد وين"؟! وكان سبب الخوف والارتباك من تسرب خبر الحالة الصحية للزعيم هو ألا ينشط الطامعون في رئاسة الحزب في ذلك الظرف الدقيق والمنعطف الخطير الذي يمر به الحزب. فالحزب غير مهيأ لا قبل رحيل نقد أو بعده للدخول في المنطقة الخطرة وهي: "من يخلف الزعيم" نسبة لوجود تيارات تعتمل وتصطرع يقول محدثي داخل أحشاء الحزب المهترئة. إلا أن تسريب خبر الحالة الصحية لنقد ورغم أنه تم عن طريق الصدفة كما قال محدثي القيادي الشيوعي العجوز، لم يهضمه الشيوعيون بسهولة ولم يستسيغوه "بأخوي وأخوك" لأنهم يعيشون في مناخ من الشكوك الدائمة ولا يأمن بعضهم بعض، "وده يا ابني الخلّانا نجمد عضويتنا معاهم" يواصل محدثي ويضيف: فقد نُشرت رسالة عن طريق البريد الإلكتروني في أوساط الشيوعيين وأصبح بعضهم يتداول "أن حالة نقد الصحية أصبحت خطرة" بمرض السرطان وبصورة تجعله غير قادر على ممارسة أعماله في قيادة الحزب. ويشير محدثي إلى أن التأخير في علاج نقد يعد بمثابة تمهيد لنقل الزعامة منه إلى (........). اعتدل محدثي في جلسته وقال: بعد الوعكة الصحية التي ألمت بالسكرتير العام للحزب محمد إبراهيم نقد اقترح بعض القيادات لكي لا يحدث فراغ على حسب خطتهم في إقصاء الزعيم وحتى لا يكون هناك جدل حول من يخلف نقد في ظل أوضاع صعبة تمر بالحزب اقترح هؤلاء أن تتولى قيادات مثل الشفيع خضر وعلي الكنين وسليمان حامد وآخرون المتابعة والإشراف على العمل السياسي اليومي في المركز والأقاليم، وذلك حتى يبدو للرأي العام أن القيادات الحالية التي تقود العمل ليست خلافية وتعمل بروح الفريق الواحد وهدفها هو تنفيذ خطط وبرامج الحزب وإن كانت قطاعات الطلاب والشباب ترى في الشفيع خضر هو الأفضل والأجدر بتولي منصب السكرتير العام. لم يكتفِ محدثي بذلك بل قال أن دوائر الحزب في الفروع هذه الأيام تستعد (لعقد مؤتمر) المدينة وذلك بإعداد أوراق العمل والترشيحات والتصعيد. إلا أن هناك نذير خلاف بين كوادر الحزب يقول محدثي ومرده أن بعض القيادات تدعو إلى اتجاه ينادي بتحرر الحزب إلى مواقف أكثر انفتاحاً على اعتبار أن الشيوعية في العالم حدث فيها تغيير كبير وهذا الاتجاه يقوده الناشط "ب.ص" وهناك اتجاه آخر يقوده تيار عريض لتكوين حزب موازٍ باسم الحزب الاشتراكي السوداني وأن هذه الفكرة يساندها منشقون خارج الحزب أمثال "ك.ج". محدثي القيادي الشيوعي العجوز الذي قال أنه جمّد عضويته أن اختيار قيادة جديدة للحزب سيترك مضاعفات عميقة داخل الحزب الهرم لأن اختيار القيادات دائماً تصاحبه اتهامات بمتوالية هندسية واستخدام تصنيفات وعبارات يتعذر نشرها خاصة عندما تكون القائمة تحوي أسماء ذات شخصيات قوية ومؤثرة. عندما ودعني محدثي إلى باب المنزل كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة والنصف من صباح اليوم التالي وتركتُ أمامه مطفأة مليئة بأعقاب السجائر و"ثيرموس" قد فرغ جوفه من الشاي وفراغ عريض يلف مستقبل الحزب العجوز!. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 1/4/2012م