تبدى الحكومة السودانية حرصاً ملحوظاً على المضي قدماً في محادثها مع الحكومة الجنوبية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بشأن القضايا الخلافية بين البلدين رغم العدوان الجنوبي المتكرر بل والمستمر والذي يصعب معه بحيثياته ومعطياته والأسلوب الاستفزازي الذي تمارسه الحكومة الجنوبية – الاستمرار في المحادثات. غالب المراقبين يستغربون انخراط الخرطوم في المحادثات بل وإيفاد مسئول الدفاع الأول، الفريق حسين إلى المحادثات لوضع التدابير الكفيلة بمعالجة الملف الأمني بأقصى عناية مطلوبة. فما هي دوافع الخرطوم وما أسباب حرصها هذا على التفاوض، في ظل إدراك الجميع أن الكفة العسكرية – إذا ما اتسع نطاق المواجهة – راجحة لا محالة لصالحها. أعضاء الوفد الحكومي المفاوض يقولون أنهم ومنذ أول جولة تفاوض كانوا يحملون تفويضاً، ولكن الأهم من ذلك جرى إبتعاثهم إلى المفاوضات دون أثقال على ظهورهم. ويشيرون في هذا الصدد على وجه الخصوص إلى أن الحكومة السودانية ومنذ اندلاع الخلاف النفطي أخطرتهم بأنها قد أخرجت مورد النفط من موازنة هذا العام تماماً حتى لا يشكل ضغطاً عليهم داخل غرف التفاوض. وتؤكد مصادر عليمة بوزارة المالية السودانية في الخرطوم على هذه الحقيقة، وكان تقدير المسئولين السودانيين، أنه وكلما تحلل الوفد المفاوض من هذه الضغوط وشعر انه يفاوض بمساحة واسعة للحركة والمناورة كلما كان ذلك أدعي للتوصل إلى حلول إستراتيجية بعيدة المدى وهو أمر يختلف تماماً فيما لو كان التفاوض يجري تحت ضغط الحاجة والشعور بضعف الموقف التفاوضي، إذ أن الأمر حينها سيجعل الوفد متلهفاً إلى حلول تكتيكية قصيرة المدى كما يتيح للجانب الآخر الضغط أكثر وأكثر فتخرج المعادلة كسيحة أو مختلة. لهذا يمكن القول هنا أن عنصر الحاجة الملحة بالنسبة للجانب السوداني غائب وهو ما يجعلنا نستبعد تماماً فرضية أن الجانب السوداني ظل يبدى حرصاً على التفاوض – رغم أنهار الدماء السائلة داخل الأراضي السودانية – لحاجة ملحة سببها اعتماد موازنته العامة على مورد النفط. هذا العنصر بات خارج نطاق الصورة تماماً. إذن ما هي دواعي هذا الإصرار على التفاوض وتكاد الجبهة الداخلية السودانية تنفجر غيظاً جراء مضي الحكومة السودانية في التفاوض رغم العدوان؟ الواقع أن القادة السودانيين يدركون بحكم تجارب عديدة سابقة في تعاملهم مع الحركة الشعبية أنها لا تتمتع بطول النفس ولا النظر الاستراتيجي – الحركة الشعبية رغم كل المحيطين بها من خبراء أمريكيين وإسرائيليين تصرفاتها كلها تكتيكية، قصيرة الأجل وهي تدير بلداً في مرحلة نشأة وبناء من ما يقارب الصفر وينتظرها الكثير ولا تملك بنية عسكرية تحتية قوية تمكنها من خوض حرب شاملة أو حتى محدودة في مواجهة السودان. ولهذا يدي الجانب السوداني ألا حاجة لإهدار الوقت والجهد والمال في حرب ذات طابع استنزافي عديمة النفع والجدوى. الأمر الثاني، أن الجانب السوداني يدرك أيضاً تمام الإدراك أن السبيل الأوحد لحلحلة مشاكله مع دولة الجنوب هو التفاوض مهما كان حجم الخلاف وصعوبته وتعقيداته لهذا فليست هناك من فائدة من حرب تنتهي بالتفاوض طال الزمن أم قصر يكون ما صرف فيها من مال وموارد خسارة لا لزوم لها. الأمر الثالث أن الحكومة السودانية تتحاشى فيما يبدو (خطة أمريكية) مكشوفة تهدف لإشعال حرب تكون مدخلاً لواشنطن للتدخل في المنطقة واستجلاب قوات دولية. لقد كافحت الحكومة السودانية لسنوات لتحاشي وصول قوات دولية الى المنطقة وهي تسعي الآن لتقليص قوات اليوناميد العاملة في دارفور ولا حاجة لإحضار المزيد منها مهما كانت الدواعي والمبررات. الأمر الأخير، أن الحكومة السودانية تدرك أن الحكومة الجنوبية توشك على الصراخ جراء توقف ضخ النفط وهذا العدوان ما هو إلا محاولة لجر السودان باتجاه آخر حتى يغطي على صراخ جوبا، ويكفي أن يتحلي السودان بقدر من الصمود لأيام أو أسابيع قليلة ويأتي الجانب الجنوبي خاضعاً ذليلاً!!