تزامنت الإصلاحات الاقتصادية التى تجريها الحكومة السودانية هذه الأيام مع الموعد المضروب لإستئناف المفاوضات الجنوبية/السودانية التى بدأت بالوفد الفني الذى طار الى أديس –الثلاثاء الماضي. ويعتقد بعض المراقبين إن هذه الاجراءات ربما ألقت بظلال سالبة على الموقف التفاوضي للمفاوض السوداني على إعتبار أنه يدخل المفاوضات ووراءه مشاكل إقتصادية قد تسبب له ضغطاً أو علي الأقل حرجاً سياسياً؛ كما أن الجانب الجنوبي قد يواتيه الأمل فى قرب سقوط الحكومة السودانية ومن ثم يعمل على عرقلة المفاوضات والمماحكة فيها إنتطاراً للتغيير، فإلي أىّ مدي يمكن أن يكون هذا الافتراض صحيحاً، وهل من الممكن ان تشكل هذه الاجراءات الاقتصادية عبئاً على الوفد التفاوضي؟ الواقع، ومع صعوبة الإجابة على هذا السؤال على نحو قاطع -كشأن التقديرات السياسية التى تخضع للإحتمالات والافتراضات- فإنه ليس من الصعب إيجاد مؤشرات هنا وهناك من بين ثنايا ومعطيات الواقع الماثل. بدءاً، فإن النقطة الجوهرية التى يتفق فيها العديد من الخبراء سواء كانوا مع أو ضد الحكومة السودانية ان هذه الاصلاحات الاقتصادية هى فى حد ذاتها مطلوبة لفائدة تصحيح مسار الاقتصاد السوداني، إذ لن يختلف إثنان على أن ضغط الإنفاق العام وكبح النظام الإداري والتقليل من مصروفات الدولة الى أقل حد ممكن هو عمل إيجابي مطلوب فى أىّ وقت بصرف النظر عن وجود أزمة اقتصادية من عدمه. كما أن رفع الدعم عن السلع والخدمات بصورة عامة وليس فقط المحروقات فى إطار سياسة السوق الحر، وهو أيضاً أمر واقعي مطلوب يعزز من واقعية الاقتصاد ويصحح النمو ويعطي صورة حقيقية للأداء الكلي . إذن –من حيث المبدأ– لا خلاف حول أهمية وواقعية الاجراءات الاقتصادية فى حد ذاتها، ولكن هنا قد يثير البعض قضية التوقيت فالقرارات يمكن أن تصح أو لا تصح ليس لعيب جوهري فيها بقدر ما لأسباب ترجع لتوقيتها، فلو كان التوقيت حرجاً، وغير مناسب، فقد يشكل هذا عيباً جوهرياً فيها حتى ولو كانت صحيحة. فهل هناك أثر لتوقيت هذه القرارات على قضية المفاوضات؟ لا شك أن التوقيت هنا لم يخلُ من تأثير، ولكن وعلى العكس تماماً مما قد يري البعض، فإن القرارات الاقتصادية تشكل بهذه المثابة عنصراً إيجابياً كونها تجعل المفاوض السوداني على ثقة من أن الاقتصاد السوداني بدأ رحلة علاج من المُنتظر أن تكلل بالنجاح. ولعل أهم نقطة فى هذا المنحي أن المفاوض السوداني سيشعر بقدر من الإرتياح لأن مورد النفط الذى تريد الحكومة الجنوبية أن يشكل عنصر ضغط على الجانب السوداني سيكون خارج الحسابات. بمعني، ان المفاوض السوداني سيجد نفسه متحللاً من ضغط المسارعة بقبول (أيّ مقترح) فيما يخص ملف النفط، لأنّ النفط جري وضعه -ولو مؤقتاً- خارج الموازنة العامة، إذ أن مجلس الوزراء قد أقرَّ موازنة عامة لما تبقي من العام الحالي 2012م، النفط فيها لم يوضع كمورد رئيسي. أما ما قد يعتقده البعض من أن التأثيرات السياسية السالبة لهذه الاجراءات من تظاهرات أو حالات إحتقان فى الساحة السياسية السودانية، فهذه دون شك هي ضريبة عملية الاصلاح ولكن لن يضير المفاوض السوداني أن يدلف الى قاعة التفاوض وهو شديد الإعتداد والثقة بنفسه كون أن حكومته متسلحة بجرأة نادرة واجهت المُشكل الاقتصادي بعلاج حقيقي وواجهت شعبها بالحقائق، وكان من المحتم ضمن حسابات هذه الاجراءات توقُع قيام عمليات تظاهر وإحتجاجات، فالسودان بلد ديمقراطي يعج بالاحزاب والقوى السياسية؛ كما أن الحزب الحاكم نفسه لم يسلم من تعدد المواقف والآراء -بداخله- بشأن هذه القرارات . هذا المشهد وعلى العكس تماماً يمنح المفاوض السوداني شعوراً بالثقة بأكثر مما يربك حساباته خاصة إذا علمنا أن أزمة بوتيرة أشد وأعقد تجتاح دولة الجنوب، ولكن القادة الجنوبيين لم يتحركوا حتى الآن لإحتوائها، فالفارق هنا على الأقل فى تخطي السودان للأزمة تشخيصاً وعلاجاً فى حين أن جوبا ليست كذلك!