ما من شك أن الحكومة السودانية محقة حين اشترطت مسبقاً، وقبل عقد أىِّ قمة بين الرئيسين البشير وسلفا كير، معالجة القضية الأمنية ووضع الأسس الكفيلة بإزالة التوتر بين البلدين وتوفير المناخ المواتي بينهما. ليس فقط لأن التفاهم وحلحلة القضايا الخلافية يتطلب هذا المناخ المواتي؛ ولا لأن أزيز الرصاص المتساقط على الحدود والقتلى والجرحي يحولان دون تمهيد الطريق لمعالجات إستراتيجية محترمة ومستدامة؛ ولكن لأن هذه القضية الأمنية فى الواقع هى مربط الفرس وهى محور الأزمة كلها. بل لا نغالي إن قلنا، إنها وسيلة الحكومة الجنوبية التى إجترحتها عن قصد ظناً منها أنها كفيلة بالضغط على الجانب السوداني للحصول علي تنازلات. وليس سراً هنا أن نشير الى أن ترك الفرقتين التاسعة والعاشرة التابعتين للجيش الشعبي الجنوبي فى ولايتيّ جنوب كردفان والنيل الازرق كان أمراً متعمداً ومقصوداً، الهدف منه إعادة استخدامها عند الحاجة وهو ما حدث بالفعل. ولهذا، فإن من المهم الإشارة إليه هنا أن الحكومة السودانية سواءً بحسن نية، أو لتقديرات خاصة بها، أخطأت بقبول هذا الوضع وتركه يتفاعل كل هذا التفاعل، كل هذا الوقت، مع أنه كان متاحاً لها – وفقاً لبنود الترتيبات الأمنية المنصوص عليها فى صلب اتفاقية السلام الشاملة – أن تطالب بحسم هذه النقطة قبل الشروع فى عملية الاستفتاء حتى، وكلّفها ذلك شططا، فقد أصبح هذا الوضع الشاذ هو أُس بلاء الأزمة برمتها. من جانب ثاني فإن القضية الأمنية هذه ما ينبغي أن تُستخدم على مائدة التفاوض من قِبل الجانب الجنوبي؛ بمعني آخر فإن مناقشة هذه النقطة بإعتبارها بنداً تفاوضياً فى المفاوضات يعتبر بكل المقاييس بمثابة القبول بإستخدام عملة لم تعد مبرئة للذمة، فقد كان من المتعيَّن معالجة هذا الوضع بمعزل عن أىّ مساومات من أى نوع وخارج إطار اى تفاوض لأنها ببساطة شديدة حق من صميم حقوق السودان ما ينبغي ولا يصح أن يتم إدخاله ضمن رزنامة القضايا العالقة فهو من قبيل تقاعس الجانب الجنوبي فى الوفاء بإلتزاماته الواردة فى اتفاقية السلام بتوقيتات محددة و بوسائل محددة غير قابلة لأي مساومات أو إرجاء او تأجيل. وعلى فرض إنكار الحكومة الجنوبية صلتها بهاتين الفرقتين فإن من حق الحكومة السودانية – وفق قواعد القانون الدولي – التعامل مع هاتين الفرقتين على الوجه الذى تراه بما يحقق لها بسط سيطرتها وسُلطانها بحكم مقتضيات السيادة. لا سيما وأنَّ الحكومة الجنوبية – كما أقرّ باقان أموم بذلك – تقرُّ صراحة بدعمها لهاتين الفرقتين وتحتجّ – لسخريات القدر ومفارقاته – بأن الحكومة السودانية عملت على نزع سلاحها بالقوة! إن الأمر هنا يتصل بسيادة الدولة السودانية على إطلاقها بصرف النظر عن طبيعة السلطة الحاكمة، فنحن أمام قوة عسكرية تابعة لدولة أخري داخل حدود دولة أخري تتلقي دعماً وتشويناً ورواتب من تلك الدولة الأجنبية. من جانب ثالث فإن مجرد إقرار الحكومة الجنوبية -أيّاً كان مقصدها فى ذلك- بدعم هاتين الفرقتين ودعم المتمردين يقتضي الحصول على تعهد عملي قاطع وليس مجرد أوراق مكتوبة أو تعهدات نظرية بالكف عن هذا الدعم. الأمر لا يحتاج الى ضمانات أو اتفاقات تثبت أنَّ الحكومة الجنوبية سرعان ما تخرقها، ولكن لا بُد من حسم هذا الملف, ومنح الأمر الفترة الزمنية المناسبة لقياس مدي التزام الجانب الجنوبي بذلك قبل الإقدام على أى تفاوض أو تفاهم من أى نوع. لن يكون مجدياً قط – وأمامنا سيل جارف من التجارب – خلط هذا الملف الأمني الخطير مع الملفات الاخري والمراهنة على تطبيق الاتفاق مجتمعاً، والاعتقاد أن الحكومة الجنوبية سوف تلتزم به مجتمعاً! لقد برعت الحكومة الجنوبية فى خلط الأوراق والخداع، واللعب بكل ما يقع تحت يدها، وهو ما لا يمكن أن تحتمله مقتضيات التعامل الاستراتيجي للدولة السودانية بحال من الأحوال!