بَثّتْ القناة الرابعة بالتلفزيون البريطاني قبل يومين فيلماً وثائقياً – على حد وصفها – قالت إنه يصوِّر الأحداث الجارية بجبال النوبة بولاية جنوب كردفان. الفيلم حمل عنوان (ما لا يعلمه العالم)، وحاول مُعِدُّوه الترويج له ليكون مثار إنتباه المشاهدين، حيث يطلب من المشاهدين أن يفرغوا وقتاً من زمنهم لمشاهدته؛ ويستخدم في بعض الأحيان أسلوباً تشويقياً لجذب إنتباه المشاهدين. غير أنّ مشاهدة الفيلم ومن أول وهلة كافية للغاية لإدراك أنه (بالفعل فيلماً سينمائياً) بأكثر مما هو فيلم وثائقي، وسرعان ما تستدعي رؤيته الى الذاكرة أفلام سابقة في عقد التسعينات، على أيام البارونة كوكس التي برعت في ذلك الحين وبمساعدة منتِجين ومخرجين أمريكيين في صناعة أفلام مصطنَعة عن مزاعم الرِق بجبال النوبة، وهي مزاعم تكفّلت الحقائق المجردة على أرض الواقع بتكذيبها وفضحها للدرجة التي خجِل بعدها منتجو تلك الأفلام وسارعوا بسحبها والتخلص منها ولم يعد أحد منذ ذلك الحين وحتى الآن للحديث عنها، لا من قريب ولا من بعيد. الآن يبدو أنَّ ذات اللعبة يحاول بعض نجوم هوليود وبوسائل تمويه مقنعة إعادة لعبها من جديد بإنتاج هذا الفيلم. وبوسعنا – بنظرة تحليلية عامة للفيلم- أن نلاحظ عدد من الملاحظات التي تقضي على مصداقيته، فالفيلم يُبرِز في بداياته أحد الأوربيين وهو يتجوّل في المنطقة، بين الأطفال وطلاب المدارس وفي ذات اللحظة – وهنا تتجلّى المفارقة – يشنّ طيران هجوماً على المنطقة ليصرخ الأطفال ويهرولون ويجرون في كل إتجاه وبعضهم يأوي الى كهوف الجبال. في الفيلم لا وجود للطائرة التي تُلقي بالقذائف مع أنّ الكاميرا من الأساس يبدو أنها مُعدّة ومستعدة وكان بالإمكان – وفق فنون التصوير السينمائي – توجيه الكاميرا الى أهمّ عنصر من عناصر الفيلم وأقوي دليل على صدق ما يقول، وهو الطائرة التى تسبّبت بالموت والإبادة الجماعية المزعومة. غير أنّ هذه النقطة المحورية المُهِمّة (فاتت) على فطنة المخرج ومن ثم أصبح الهروب والخوف والصراخ بلا دافع! الملاحظة الثانية عبارة عن سؤال نتمنّى لو أن منتجي الفيلم ومخرجه يجيبوا عنه بأي قدر من المصداقية، وهو كيف إتفقَ أن يعلم مصوري الفيلم أن هنالك غارة طيران قادمة، فأعدّوا واستعدوا لها؟ والسؤال المتسلسل عن ذات هذا السؤال هو كيف (غامر) مصوريّ الفيلم كل هذه المغامرة بالقيام بعملية تصوير في أحداث خطيرة ضارية كهذه بحيث يجري البعض ويختفوا في الكهوف ليظل المصورين (في حالة ثبات وقوة) لإكمال التصوير؟ إن مثل هذا القدر من التضحية عصية على الفهم خاصة ونحن نعلم أن أحداثاً أكثر فظاعة وبشاعة جرت في غزة قبل نحوٍ من ثلاثة أعوام ولم يحرص – هؤلاء المصورين السينمائيين – على توثيقها و (المغامرة) بتوثيقها للمصلحة الانسانية العليا! الملاحظة الثالثة أن منتجي الفيلم وهم بكاميراتهم وأجهزتهم لم يُبيِّنوا لأغراض المصداقية، كيف تسنّى لهم دخول منطقة جبال النوبة متجاوزين السلطات السودانية؟ قد يستهين البعض بهذا السؤال، ولكن ليس من المنطق أن يتم دخول بهذا القدر الى منطقة تسيطر عليها الحكومة السودانية دون إذنها أو على الأقل دون علمها، وإذا تم الدخول بأي كيفية كانت فإن من الصعب أن تتم عملية تصوير -بكل ذلك القدر من الأريحية- في مناطق وعرة وصعبة في عمق ولاية جنوب كردفان ؛ وإذا ما تم التصوير دون أن تعلم السلطات السودانية فإن من المستحيل الخروج بذات الكيفية. إذن الأمر في مجمله لا يعدو كونه (سيناريو) سينمائي لعب فيه الخيال والحِيَل السينمائية الدور الأكبر، وهذه للأسف الشديد أساليب قديمة بالية لم تعد تنطلي على الناس في ظل التقدم الهائل في تقنية التصوير والأجهزة الحساسة، كما أن ذات هذا الأسلوب تمت تجربته في إقليم دارفور ولم ينجح الأمر. من المؤكد أن (السينما) أصبحت حيلة العاجزين وحربهم الإعلامية الفاشلة ولهذا صنعوا فيلماً سينمائياً بلا أبطال!