تنطلق مصر بخطوات متسارعة نحو صياغة دستورها الجديد، قبيل أسابيع قليلة من بدء أول انتخابات رئاسية تعددية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وهي في سيرها الحثيث نحو هذا الإنجاز، لا تملك رفاهية الخلاف والجدل الذي استغرق قواها السياسية طوال ما يزيد على عام كامل، فالوقت المتبقي لتحقيق تلك “المهمة الصعبة" لن يمنح غرماء السياسة فرصة لجدل، بعد أن قطع المجلس العسكري الطريق على الجميع، مؤكداً في غير مواربة أنه لن يسلم السلطة في البلاد، إلا ل"نظام مدني على قمته رئيس منتخب، يحظى بكل الصلاحيات الدستورية"، مهدداً على نحو غير مباشر، بأن الظروف قد تدفعه لتأجيل عودته إلى الثكنات، ما لم تنته القوى السياسية إلى صياغة “دستور يرضى عنه جميع أبناء الشعب" . بدت التصريحات التي أطلقها قبل أسبوع، رئيس المجلس العسكري، والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، المشير حسين طنطاوي، والتي أكد فيها أن “الجيش لن يسمح بخضوع مصر لمجموعة أو قوى بعينها" أشبه ما تكون بنفير تحذير، لأطراف اللعبة السياسية جميعاً، سواء هؤلاء الذين يشاركون في السباق الرئاسي، ممثلين للقوى الثورية الشابة، أو الأخرى التقليدية ومن بينها رموز النظام السابق من ناحية، أو القوى السياسية الأخرى داخل البرلمان من ناحية أخرى، وفي مقدمتها قوى “الإسلام السياسي"، صاحبة الأغلبية النيابية، التي لعب أداؤها السياسي تحت قبة البرلمان خلال الفترة الماضية، وسعيها المحموم للاستحواذ على تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، الدور الأكبر في الأزمة الحالية التي تشهدها مصر قبيل شهرين فقط من انتهاء المرحلة الانتقالية وعودة الجيش إلى ثكناته . على مدار الأسبوعين الماضيين جرت اجتماعات كان المشير شخصياً هو الطرف الرئيس فيها، بعضها معلن مثل الاجتماعين الأخيرين اللذين شهدا مشاركة واسعة من ممثلي الأحزاب والقوى السياسية الممثلة في البرلمان، وبعضها الآخر ظل بعيداً عن دوائر الإعلام المحلي، إذ اقتصرت هذه اللقاءات حسبما تقول مصادر مطلعة، على قيادات بارزة في حزب الحرية والعدالة صاحب الأغلبية البرلمانية، وفيها استخدم “المشير" مفردات جديدة وحاسمة، بلغت حد “الدق على طاولة الاجتماع" في إشارة لا تخطئها عين، تفيد على نحو مباشر بأن المؤسسة العسكرية “قد نفد صبرها"، وأنها قد تضطر إلى التدخل بما تملكه من عناصر قوة للجم رغبات جامحة للجماعة، التي بدا أنها تتعمد وضع العربة أمام الحصان، عبر تعمد تعطيل عمل الجمعية التأسيسية، وتجاهل صرخات واحتجاجات القوى السياسية المختلفة في مصر على نسب تشكيلها . المؤكد أن مثل هذه اللقاءات الحاسمة لعبت الدور الأكبر، فيما انتهى إليه الاجتماع الأخير الذي ضم ممثلي القوى السياسية برئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة من قرارات، وفي مقدمتها بالطبع “اختيار لجنة المئة"، التي سوف تكلف بكتابة الدستور الجديد من خارج البرلمان، فالجماعة من جهتها لم تبد ولو إشارة بسيطة تشير إلى ممانعتها في ذلك، كما أنها أيضاً لم تبد أي ملاحظات تتعلق بنسب التشكيل التي انتهى إليها الاجتماع، والتي لن تزيد مشاركة الأحزاب فيها مجتمعة بما فيها حزبا الحرية والعدالة والنور السلفي على 37 مقعداً، فيما تمثل مختلف فئات المجتمع ب 63 مقعداً، من بينهم أربعة مقاعد للأزهر، وستة للكنائس المصرية الثلاث “الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية"، إلى جانب عشرة من خبراء القانون وفقهاء القانون الدستوري، وعضو واحد من كل هيئة قضائية، وممثلين عن الفلاحين ومثلهم عن العمال، إضافة إلى شخصيات عامة تضمن تمثيلاً للمرأة والطلبة والفئات ذات الاحتياجات الخاصة . النقاط فوق الحروف في نظر كثير من المراقبين لعب تدخل رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة في تلك اللحظات الفارقة، دوراً كبيراً في وضع النقاط فوق الحروف، فهو من ناحية أسهم إلى حد كبير في لجم تهافت قوى الإسلام السياسي على سلطات الدولة الثلاث، وفي مقدمتها السلطة التنفيذية ممثلة في المقعد الرئاسي، وهو من ناحية أخرى أكد ضرورة وجود دستور للبلاد قبل تسمية الرئيس الجديد، وهو ما تتوافق عليه معظم التيارات السياسية وفي مقدمتها قوى الثورة التي لم تحظ سوى بتمثيل محدود للغاية في البرلمان، والتي لم تكف عن المطالبة بإعداد الدستور قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، إذ ليس من المعقول أن تأتي هذه الانتخابات برئيس للجمهورية الجديدة، لا تحدد صلاحياته نصوص دستورية متوافق عليها من مختلف فئات الشعب، كما أنه ليس من المعقول أيضاً أن يعمل الرئيس القادم، بموجب الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري في مارس/آذار من العام الماضي، وهو الإعلان الذي تمنح نصوصه ل"العسكري" صلاحيات واسعة سوف تتضارب حتماً مع سلطات وصلاحيات الرئيس الجديد، وهو ما يعني على نحو مباشر أنه سوف يكون ظلاً للمجلس أو تابعاً له في أفضل الأحوال . المؤكد أنه بإعلان النقاط الست التي انتهى إليها اجتماع القوى السياسية والحزبية مع رئيس المجلس العسكري، تكون مصر قد قطعت شوطاً كبيراً في سباق اللحظات الأخيرة لإنجاز الدستور الجديد، لكن ذلك لا يعني أن المسألة سوف تكون سهلة، فكتابة الدستور من المؤكد أيضاً أنها سوف تواجه مشكلات عديدة ربما من أهمها، وضع المؤسسة العسكرية في الدستور الجديد، وهو أحد أهم نقاط الجدل التي شهدتها مصر خلال الشهور الأخيرة، وإحدى نقاط الخلاف التي يرى كثيرون أنها لعبت دوراً في تلك القطيعة التي حدثت بين العسكر والإخوان، بعد أن سعت الجماعة عبر نوابها في البرلمان إلى إطلاق العديد من التصريحات العنترية التي بلغت حد وقوف أحد النواب ليطالب بمثول المشير شخصياً أمام البرلمان لمساءلته في العديد من الوقائع، وهو الأمر الذي أثار موجة واسعة من الاستياء في أوساط جنرالات المجلس العسكري، وقيل وقتها إن قيادة بارزة في حزب الحرية والعدالة تعرضت إلى لوم شديد بلغ حد التوبيخ من قيادة عسكرية كبيرة . لن يكون وضع الجيش في الدستور فحسب هو المعضلة الكبرى التي سوف تواجهها الجمعية التأسيسية الجديدة، وإنما وضع الرئيس أيضاً، إذ يتعين على الدستور الجديد أن يحدد على نحو واضح نظام الدولة الجديدة، وهو كان ولا يزال إحدى أهم نقاط الجدل بين العديد من القوى السياسية، فالإسلاميون يميلون بحكم الأغلبية البرلمانية إلى النموذج البرلماني، الذي يتيح لحزب الأغلبية تشكيل الحكومة ويقلص في الوقت ذاته من سلطات الرئيس الجديد، وهو الأمر الذي يجد هوى في نفوس العديد من أنصار التيار الليبرالي، لكن ذلك من جهة أخرى يصطدم على نحو مباشر مع طبيعة الدولة المصرية، ووضع الجيش أيضاً الذي لن يسمح بأي حال للبرلمان أن يتدخل في اختيار قائده العام، أو مساءلته وسحب الثقة منه وفق آليات هذا النظام . وربما تكون أيضاً قضية التوازن المطلوب بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، إحدى أهم النقاط التي يتعين على الدستور الجديد أن يتعرض لها بما تستحق من اهتمام، إلى جانب طبيعة النظام الاقتصادي للدولة الجديدة، وهي في النهاية أمور يرى كثير من فقهاء القانون الدستوري إمكانية حسمها بالسرعة المطلوبة، استناداً إلى العديد من نصوص الدساتير السابقة، التي انتهت إليها مصر خلال العقود الماضية، ومن أهمها دستور العام ،1923 ومن بعده دستور العام 1954 الذي شارك في صياغته نخبة من ألمع الفقهاء ورجال القانون، وعلى رأسهم الدكتور عبدالرزاق السنهوري باشا، فضلاً عن دستور العام 1971 الذي يعتبره كثيرون من أفضل الدساتير التي ظهرت في مصر، وأن نصوصه لا تحتاج سوى إلى بعض التعديلات البسيطة في أبواب قليلة خضعت لعبث نظامي السادات ومبارك، وبخاصة ما يتعلق منها بفترات الرئاسة وصلاحيات رئيس الجمهورية المطلقة . لكن هل ستكون تلك هي المشكلة الأكبر التي سوف تواجه الجمعية التأسيسية الجديدة؟ روح الثورة الحقيقة أن كل ما سبق لا يعدو أكثر من مشاكل فرعية صغيرة، سوف تتغلب عليها بالقطع لجنة المئة بعد تشكيلها، بينما تظل المبادئ التي يجب أن يتضمنها الدستور الجديد هي لب المشكلة الحقيقية التي يجب أن تنتبه إليها الجمعية التأسيسية، ذلك أن المصريين لن يرضوا بديلاً عن دستور جديد يعبر عن روح ثورتهم ومبادئها في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وهو ما يعترض على نحو مباشر مع العديد من نصوص الدساتير التي صدرت في أوقات سابقة، وفي مقدمتها دستور العام 1971 الذي لا يزال كثيرون يطالبون بعودته باعتباره الحل الأمثل للازمة الحالية . تقول القوى السياسية الممثلة في البرلمان المصري وفي مقدمتها حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، إن الأبواب الأربعة الأولى من هذا الدستور تحظى بتوافق عام، وهو ما يعني أن ما قد يتبقى من نصوص الدستور الجديد لن يستغرق التوافق عليه سوى أيام معدودة تصبح بعدها هذه النصوص جاهزة للاستفتاء العام، لكن هؤلاء يتجاهلون حسبما يرى كثير من فقهاء الدستور أن هذه الأبواب الأربعة وإن كانت محل توافق في الماضي، قد صارت محل خلاف الآن، وبخاصة في ما يتعلق بالمواد المتعلقة بالشريعة، والتي تجد معارضة شديدة من القوى السلفية، فضلا عن مواد أخرى تتناقض مع بعضها بعضاً أكثر مما تتكامل، بل إن بعض النصوص تتعارض بداياتها مع نهاياتها مثل المادة التي تصف الاقتصاد المصري بأنه “يقوم على تنمية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وكفالة الأشكال المختلفة للملكية والحفاظ على حقوق العمال"، وهي في رأي كثيرين “أهداف متضادة لا يتحقق أحدها إلا على حساب الآخر" . في نظر كثير من قوى الثورة فإن مجرد عودة العمل بمثل هذا الدستور، يعني على نحو مباشر أن مصر لم تشهد ثورة اجتماعية وسياسية بامتياز، وأن ما حدث لم يكن سوى “صراع أجنحة في الحكم" دفع المصريون ثمنه من دمائهم، ولم يجنوا من ثماره سوى مجرد إزاحة رأس النظام السابق، بينما بقي النظام بسياساته وفلسفاته جاثما على قلوبهم . المؤكد أن المصريين لن يرضوا بديلاً عن دستور يعبر عن أهم مبادئ ثورتهم، التي نادت بالخبز والعدالة الاجتماعية والكرامة، وهو أمر لن يتحقق حسبما يرى كثيرون إلا إذا استلهمت الجمعية التأسيسية المرتقبة هذه المبادئ، وقامت بترجمتها إلى نصوص واضحة وصريحة في مواد الدستور الجديد، وهو ما يفرض على الجمعية منذ البداية أن تكون قادرة على استيعاب آمال وأحلام قوى المجتمع، التي شاركت في الثورة، وأن تجد هذه القوى نفسها في نصوص دستورها الجديد . المصدر: الخليج 6/5/2012م