لم يقتصر فشل زيارة الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت الى الصين، الشهر الفائت على إضطراره لقطعها قبل إكتمال أجندات برامجها بفعل دواعي أمنية بالغة الخطورة، كانت تجري فى العاصمة الجنوبية، قِيل وقتها إنها كانت تستهدف الإطاحة به. فشل الزيارة فى الواقع كان أكبر مما ظهر على السطح، فقد إتضح مؤخراً أن ما أشاعه الجانب الجنوبي من تعهُد الصين بتقديم قرض يصل الى 8 مليار دولار لم يكن صحيحاً، إذ أنَّ كل ما قدمته بكين كان فى حدود 1700 مليون دولار! ونقلت صحيفة الفاينشيال – الثلاثاء – عن دبلوماسيين غربيين وصفتهم للقرض الصيني الذى كانت قد أعلنته جوبا حينها بالفرقعة الاعلامية، وهو ما أكدته جوبا لاحقاً بعدما كشفت بكين عن حقيقة القرض، حيث أضطر مدير البنك المركزي فى جوبا (كورنيليو كوريوم) للإقرار علناً بالحقيقة. والواقع إنَّ ما طفا على السطح – حتى الآن – من وقائع الزيارة البائسة وإن كان يُستفاد منه أن جوبا عادت من بكين بأدني من خفيّ حنين، وأقل بكثير جداً مما كانت تأمل وتطمح، إلاّ أن ما يُستخلص سياسياً واستراتيجياً من هذه المؤشرات الجانبية يبدو أكبر وأخطر، وفى مقدمة هذا الاستخلاص أن جوبا كانت تسعي بطريقة أو بأخري الى سحب بكين من الميدان الاقتصادي السوداني، الى ميدانها هى - كمرحلة أولي - ريثما تضمن أنها حصلت على مبتغاها، لتفسح المجال لاحقاً للشركات الأمريكية المتحرِّقة شوقاً الى النفط الجنوبي على إحتمالية نضوبه المبكر، وكلنا يعلم فى هذا الصدد أنّ واشنطن قبل أشهر قلائل كانت قد فرغت من إجراءات تسهيل ولوج هذه الشركات الى دولة الجنوب لتأخذ (مكانها الطبيعي) هناك عقب رفع الحظر الاقتصادي الذى كان مفروضاً على السودان ليظل باقياً على السودان وتخرج جوبا من مظلته. مكمن الخطورة فى هذا التحرك الجنوبي أن جوبا كانت تود خلخلة العلاقة الاستراتيجية بين الخرطوموبكين بدخولها فى المنتصف، والعمل على إفسادها ؛ ولهذا قِيل أن الرئيس كير كان قد طلب من بكين العمل على بناء خط أنابيب جنوبي لتصدير النفط الجنوبي بعيداً عن السودان، ولكن الجانب الصيني - الذى لم يكن يحتاج الى أىِّ تفكير فى العرض المقدم ومخاطره - رفض بهدوءٍ الطلب الجنوبي وأغلق الباب تماماً أمام الرغبة الجنوبية، مضيفاً عبارة بالغة الدلالة الى قرار الرفض فحواها أن الصين أنشأت بالفعل من قبل أنابيب النفط المطلوبة وهى تلك المارّة بالسودان! كانت بكين وكأنّها تعدِّد المخاطر والتعقيدات والنواحي الهندسية والفنية، بل وكأنها كانت تشير على جوبا أنه لا بديل للأنبوب السوداني! أما ثاني إستخلاص فهو أن جوبا – وهى لاعب حديث عهد بالمضمار الدولي – أرادت إستخدام دولة عظمي فى مناورة خطيرة من النادر جداً أن تحدث، فقد كانت جوبا تعتقد أن الأمر يتعلق فقط بالمال والأرباح! نسيت جوبا أن السياسة والاستراتجية وحسابات الكبار هى الأكثر أثراً والأعمق دلالة، ولهذا كان من المحتم أن يفشل الأمر فشلاً ذريعاً إذ أن لبكين حساباتها الخاصة فى (نادي الكبار)، ومن المستحيل أن تغامر بها أو تفرط فيها. الإستخلاص الثالث، يبدو أن جوبا حين عجزت عن إقناع بكين بإنشاء خط الأنابيب والقرض الكبير بَنَتْ حساباتها على إحداث هذه الفرقعة الاعلامية، عسي أن تغطي هذه الفرقعة على واقع الدولة الجنوبية الأليم الذى إقترن فيه الإختلال فى الميزان الاقتصادي وعجز الموازنة العامة، مع الهزيمة المريرة التى لحقت بجوبا جرء اعتداءها السافر على هجليج. فقد بدا الآن أنَّ جوبا أرادت من بكين أن (تداري على الحقيقة) لأيام أو أسابيع حتى تستفيد جوبا سياسياً منها وتناور بها فى وجه الخرطوم. وأخيراً إتضح لجوبا أن أحداً لن يمنحها فلساً واحداً، وقد أوقفت ضخ نفطها بنفسها وبدون دواعي موضوعية، فحتى حلفائها الاستراتيجيين –واشنطن وتل أبيب– وقفوا موقفاً سلبياً منها، وبالطبع تعرف الصين ذلك وكان آخر ما يمكن أن تفعله هو أن تفعل ما لم يفعله حلفاء جوبا الحقيقيين.