يبدو أن بعض البشر لا تنتهي صلاحيتهم المهنية بوصولهم سن المعاش، كما يحدث مع بعض الشخصيات الشهيرة التي لا تزال تؤدي أداء كبيراً وشاقاً، ولا تشتكي من آلام في الركبة أو في الظهر كما يفعل البعض بمجرد أن يصل سن الأربعين أو الخمسين في أضعف الإيمان، فالمشكلات الصحية المزمنة التي نراها تتفشى بين الكبار والشباب، تستدعي المقارنة ونحن نتابع شخصيات مثل جيمي كارتر وهو يقترب من العقد التاسع من العمر ولا يزال يتمتع بحيوية يحسد عليها وإنتاجية مميزة، ويتحمل عبء كثير من القضايا الدولية الخلافية، التي تتطلب قدراً كبيراً من الصفاء الذهني، والسلامة العقلية، والسلاسة الدبلوماسية. فمنذ مغادرته للبيت الأبيض عام 1981 تفرغ للمشاركة في السياسات الدولية، ومنح جائزة نوبل للسلام عام 2002 لدأبه في التوصل لحلول في الصراعات الدولية وازدهار الديمقراطية في شتى بقاع العالم واحترام حقوق الإنسان. وقد رأيناه مؤخراً وهو يتنقل بين عواصم العالم يراقب ويتوسط ويساهم في التفاوض. فالرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة لم يقف طموحه عند كرسي الرئاسة في بلده كما يحلو لبعض المتنفذين، وإنما كان يملك رغبة عظيمة أهم وأعمق من مجرد كونه رئيس دولة، فمهمة مراقبة الانتخابات التي يتبناها جيمي كارتر مع فريق عمل كامل، أخذته إلى آفاق أكثر رحابة وأصبح من أرفع الشخصيات التي يستقبلها الملوك والرؤساء، ويحظى باحترام وتقدير لا يختلف عليه اثنان، فالكاريزما التي يتحلى بها جعلته رجل المواقف الدولية. وحين أسس بمعية زوجته مركزه الخيري الذي يعرف بمركز جيمي كارتر، كان يهدف إلى تقديم المساعدة لتحسين نوعية الحياة للناس في أكثر من 70 بلداً، واستطاع بالفعل أن يحقق نجاحات في بعض الدول لا سيما الإفريقية، كما حظيت مؤسسة جيمي كارتر بصيت واحترام في العالم العربي والغربي، مما دفع منظمة كالأمم المتحدة إلى الاستعانة بجهودها الخيرية في حلحلة بعض القضايا العالقة. وقد وجدنا كارتر مؤخراً، مراقباً في أول انتخابات للبرلمان المصري بعد الثورة، واستعان به المجلس العسكري رغم رفضه للرقابة الدولية، وكذلك في أول انتخابات رئاسية. وقد استثمر كارتر تواجده في مصر لإجراء جملة من اللقاءات استطاع من خلالها استقراء مواقف الأطراف السياسية ومواقفها من القضايا الدولية الكبرى، وخرج بتصريحه المثير بأن "الإخوان في مصر سيحترمون معاهدة السلام مع إسرائيل" ولن يسعوا إلى تقويضها. والمعروف أن كارتر لعب دوراً كبيراً في التوصل إلى اتفاقية "كامب ديفيد"، واستخدم حق الفيتو بصفته الرئيس الأميركي لحماية أمن إسرائيل، إلا أنه في العام 2000 كتب ما يمكن أن يغير نظرة العرب الاعتيادية لرئيس أميركي يتواطأ ضمنياً وعلنياً مع إسرائيل. فقد قال في مقالة نشرتها واشنطن بوست: "إن السبب الرئيسي لفشل العمل الدبلوماسي الأميركي على مدى سنوات وتواصل العنف في الشرق الأوسط، هو أن بعض الزعماء الإسرائيليين مستمرّون في خلق حقائق عن طريق بناء المستوطنات في أراضٍ محتلة"، مضيفاً أن بناءها المتعمّد كجزر أو قلاع داخل المناطق الفلسطينية "يجعل المستوطنين عُرضة للهجوم.. ويمنع أية حكومة فلسطينية من التمتّع بوحدة وتواصل أراضيها". كما ألف كتاباً موثقاً اعتبرته بعض الصحف الأميركية أشبه "بضربة مطرقة" للنفوذ الصهيوني، إذ يتناول كتاب "سلام.. لا فصل عنصري"، القهر والاضطهاد في الأراضي الفلسطينية التي يقسمها نظام صارم يتطلب استصدار موافقات وأذونات خاصة للانتقال من مكان إلى آخر. ولعل انتقاد كارتر لأميركا خلال لقائه شيخ الأزهر أحمد الطيب، يأتي ليكمل الصورة التي بات عليها هذا الرجل الذي أدرك أن "الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل وانحيازها الأعمى لها أضر بسمعة أميركا ومصداقيتها. ليس فقط على مستوى الدول العربية والإسلامية وإنما على مستوى العالم"، معرباً عن أمله في أن "يقوم الرئيس الأميركي باراك أوباما، في حال أُعيد انتخابه لفترة رئاسية ثانية، بتصحيح مساره تجاه القضية الفلسطينية التي أصبحت تؤنب الضمير الإنساني الحر"، مشدداً على أن "الغرب وأميركا يدعمان أكثر من اللازم سياسة إسرائيل التي تقوم على القهر والإذلال، والغطرسة وهضم حقوق الشعب الفلسطيني". كارتر اليوم ربما ليس هو كارتر الأمس، ولكن ما يمكن الاتفاق عليه أن الرجل ذا الثامنة والثمانين سنة، استطاع أن ينجز عملاً خلاقاً ومؤثراً لم نجد مثله عند كثير من الشخصيات العربية المؤثرة، التي توارت عن الأضواء بخروجها على المعاش. المصدر:البيان 29/5/2012م