نجح رئيس لجنة حكماء إفريقيا ومبعوث الاتحاد الأفريقي في أن يحصل على اتفاق ببدء المفاوضات بين الخرطوموجوبا، ليبدأ مسلسل التفاوض من جديد. حدثت متغيرات كثيرة وأحداث كثيرة تجعل هذه المفاوضات مختلفة تماماً عن سابقاتها. كانت نتائج المحادثات دائماً تحدد بالضغوط التي تمارس على الطرفين، وإن كانت معظم الضغوط تمارس على حكومة الخرطوم، يقابلها ميل داخلي وقابلة للاستجابة لهذه الضغوط مبني على حسن نية ووهم وسراب تحسبه سلاماً، إذ تمت الاستجابة للضغوط مع قطع العشم في الحصول على جزء من الجزرة. الآن استبانت الحكومة السودانية بعد أن فقدت الكثير وأدركت المخططات والأهداف وتقاطع المصالح للفاعلين الكثير، دوليين ومحليين، أخطرها تفتيت السودان. وهذا المتغير بالتأكيد هو في صالح الحكومة وفي مصلحة السودان، فقد استبانت الرؤيا للحكومة، وبالتالي المفاوضين، وأدركوا تماماً الخبث وسوء النية التي كانت تبيت وراء كل هدف واتفاق. كانت نتائج الأفعال (الخرقاء) وغير المسؤولة من حكومة الجنوب بإغلاق النفط، والعدوان على هجليج، كارثية على حكومة الجنوب، وغيرت الموقف التفاوضي مائة وثمانين درجة لصالح حكومة السودان على المستوي السياسي وعلى المستوي الاقتصادي. على المستوي السياسي، كان الاتحاد الأوروبي داعماً مهماً لدولة الجنوب، وكانت كل المطلوبات توجه لحكومة السودان حتى لو كان الخطأ من حكومة الجنوب. أما الآن، فقد بدأت الرؤيا تتضح للاتحاد الأوروبي، عبر عن هذا الموقف (مايكل مان) المتحدث باسم الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي (كاثرين اشتون): (نحن الآن في مرحلة دقيقة تشهد التحضير للعودة إلي التفاوض، لذا على مستؤولي الدولتين التحلي بالمسؤولية وعدم إطلاق تصريحات متطرفة)، وأضاف: (يجب التنويه بأننا نحتفظ بحق فرض عقوبات على الأطراف التي تعرقل طريق السلام بين الدولتين) وأوضح أن الاتحاد يتابع تطورات الوضع على الحدود بين الدولتين عن كثب، كما أنه يتابع مشاوراته الدولية في هذا الشأن. وحتى الولاياتالمتحدة التي تحمل عداءً سافراً للسودان ومن خلفها اللوبيهات التي تحمل عداء أكثر، أثرت تلك الأحداث (الخرقاء) في موقفها. ففي جلسة استماع عاصفة أمام الكونغرس (مطبخ السياسات العدائية للسودان)، فكان الشهود (جون إيبنر) مدير منظمة التضامن المسيحي، ومدير افتداء الرقيق المزعومين من ملاكهم الشماليين بثمن، وجاء مصطلحياً معه جنوبيين وقسيسين من جبال النوبة، وشهد بالجلسة (روجر ونتر)، وإلي جانبهم كان (برليستون ليمان) المبعوث الأمريكي الخاص للسودان. فقد أدلي كل من هؤلاء بشهادته وقال إن هناك خطأ في مساواتنا بين السودان وجنوب السودان، في مثل العبارة الدراجة (إن على الدولتين فعل هذا الشيء أو ذاك). وكان من رأيه أن مثل هذه التسوية في تقسيم المسؤولية تكافؤ أخلاقي فاسد بين الطرفين فالخرطوم هي الظالمة. وطالب بعمل عسكري ضد منشآت حربية. ورد ليمان على الجميع بأنه لا رغبة له في الخوض في الموضوع الأخلاقي المعروف لديه. وقال أن في واقعة (أبيي) خالف كل من السودان وجنوب السودان الاتفاق مع الأممالمتحدة. وقال إن سياستنا لا تفرق بين أشرار وأطهار.فسنظل نلح على السودان ليري أن مصلحته، وكذلك جنوب السودان، في السلم. وسيستجيب السودان لأنه يعرف أن يحتاج لنا. وتأتي شهادة السيد الدكتور (أكس دي وال) رئيس مؤسسة السلام الدولي بكلية فليستشر جامعة تفتس الأمريكية، والمختص بالشأن السوداني، ومستشار الاتحاد الأفريقي، والمعروف بميوله تجاه الحركة الشعبية، في محاضرة قدمها بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بعنوان (شمال وجنوب السودان، حرب أم سلام؟)، بتاريخ 17/4/2012م، حيث قال في المحاضرة: (إن الرئيس البشير قال في جوبا في 4/11/2011م، إنه على استعداد لاحترام خيار الجنوب إذا أراد الانفصال، وقال إن البشير أوفي بما وعد). قال: المنطقتان جنوب كردفان والنيل الأزرق ينتشر فيهما الجيش الشعبي الذي يقدر بحوالي 40 ألف مقاتل، وشارك طوال فترة الحرب)، وقال: إن هناك أعداد ضخمة ممن يتبعون للجيش الشعبي في المنطقتين لم يتم حصرهم وتسجيلهم)، وذكر: (أن اجتماعاً رئاسياً التأم في جوبا في 7/4/2011م، حيث كانت الخلافات في نطاق ضيق، حيث طالب الرئيس البشير سلفاكير بسحب تلك القوات جنوباً، وكان رد سلفاكير أنه لا يخالف كلام رئيسه، يعني موافقته على سحب القوات). وتحدث عن أن (جورج كلوني) دخل جنوب كردفان وشاهده الناس وسط متمردي الجنوب وهم يرتدون زى الجيش الشعبي وعليه علم دولة الجنوب، ويحاربون تحت نفس شعارها، في حين تقول حكومة الجنوب أن لا خيار بيدها بعد أن ألفي الشمال اتفاق أديس أبابا الإطاري، وقال إن تذرع الجنوب بمحدودية خياراته في التعامل مع هؤلاء المقاتلين ليس مقبولاً، فالجنوب له الكثير ليفعله في هذا الصدد. وقال إن الجنوب يدعم متمردي قطاع الشمال وحركات دارفور التي دخلت جنوب السودان قادمة من ليبيا. ولى المستوي السياسي يبدو بصورة واضحة جداً موقف الجامعة العربية المنحاز والداعم للسودان، ولأول مرة، ولعل ذلك انعكاس لثورات الربيع العربي وتأثيره على الموقف العربي. ويظهر ذلك في الزيارة الفورية التي قام بها الدكتور (نبيل العربي) للسودان فور صدور قراري الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن، حيث أعلن أن موقف الجامعة العربية هو التأييد التام للسودان في كافة قضاياه، بجانب الرفض القاطع لكل التدخلات الأجنبية في الشأن السوداني، ودعم كافة الخطوات التي تؤدي إلي حل القضايا الخلافية بين السودان ودولة جنوب السودان. وكشف الأمين العام أن الاجتماع الوزاري الذي سيعقد في الخامس من يونيو سيكون خاصاً بمناقشة الموضوعات المتعلقة بالسودان، ليحدد ما هو مطلوب من الجامعة لتقوم به. وعلى المستوي السياسي الداخلي في السودان فإن الالتفاف حول الحكومة من كافة قطاعات الشعب بكافة ألوان الطيف السياسي، لربما لم يتوفر لحكومة في السودان إلا في يوم إعلان الاستقلال. وهذا وحده يمثل أكبر متغير داعم للحكومة ولوفدها في المفاوضات، وعليه يمكن أن تبني الكثير وتطلب الكثير. وفي المقابل على المستوي السياسي الداخلي في الجنوب، فيكفي ما يعمله الكافة من تمرد طال كافة ولايات الجنوب على الحركة الشعبية، والاحتراب القبلي الدائر، انعكاساً لخيبة الأمل في الجنة الموعودة بنيل الاستقلال. ويعبر عن ذلك الأنباء عن الانقلابات ومحاولات الاغتيالات التي طالت الجميع حتى سلفاكير نفسه، واستبدال معظم القادة حراسهم من الجنوبيين بحراس من يوغندا ومن شركات الأمن الأمريكية. وقد عبر عن ذلك أكاديمي من جنوب السودان حيث قال : (غنه لن يكون بوسعهم بعد الانفصال أن يشكوا من العدو من الخارج وهو السودان. وسيتعين عليهم بدلاً عنه الشكوى من عدو الداخل وهو أنفسهم). أما على المستوي الاقتصادي فقد كان الفعل (الأخرق) من حكومة الجنوب بإيقاف النفط، فيكفي ما جاء في شهادة البنك الدولي في تقريره عن دنو إفلاس جنوب السودان. فقد ساء الدوائر الاقتصادية والمالية في البنك إيقافهم ضخ نفطهم، الذي يشكل 98% من دخل دولتهم، ولم تر فيه وضعاً درامياً فحسب بل بدا منه أن ساسة الجنوب غير مدركين لمغازيه أو مترتباته، التي منها انهيار الناتج القومي الإجمالي للدولة، وتدهور قيمة جنيه جنوب السودان بصورة حادة، قيمة الدولار الآن تساوي 10 جنيهات)، وسيحدث تضخم هائل لأن كل السلع الضرورية والتفاخرية مستوردة، (بلغ سعر البصلة 2 جنيه، وسعر طلب الفول في المطاعم 15 جنيهاً)، وستنفذ أرصدة العملات الأجنبية، فبوتيرة الصرف الحالية ستخلو الخزينة من الأرصدة في يوليو 2012م. ولن تجدي خطط الحكومة فتيلاً لتفادي هذا الوضع المأساوي. وفي الجانب الاجتماعي ستزداد نسبة الفقر إلي (83%) في 2013م بعد أن كانت (51%) ومعني هذا أن (6/3) من السكان سينحدرون إلي ما تحت خط الفقر، وسيزداد معدل وفاة الأطفال دون سن الخامسة من (10%) إلي (20%)، وستهبط نسبة الداخلين للمدارس من (50%) إلي (20%). (وهنا لابد من الإشارة لماذا العجلة والضغط من مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي لبدء المفاوضات والانتهاء منها في فترة لا تتجاوز الشهرين!!!). من ذلك يبدو بصورة واضحة أن حكومة الجنوب ما كانت تعودت عليه كحركة مقاومة مدللة في سوق المال والأعمال لا مشتر له. ولم تنجح الحكومة في نظر الخبراء في تقديم بيان شاف لماذا أوقفت ضخ النفط. ويعتقد المجتمع الدولي أن حكومة الجنوب بحاجة إلي نصح كثير شريطة أن تستمع له وتتبعه كله. ولعل أخطر ما يحمله العالم على حكومة الجنوب إنها قليلة الاكتراث بشعبها. وهذا مقلق للعالم، ويرسل رسالة بأن الحكومة تزجهم في الويلات لهدف غير واضح. فقد تصرفوا في مليارات بغير تدبير منهم أو ضبط ميزانية. وفي ذلك قال وزير جنوبي أن صفوة الحكم الجنوبية ليست فاسدة فساداً لا يقع من الآخرين، ولكن المال الذي يأتي إلي خزائنها كمن يبتلعه جحر أسود، لأن اللا دولة خالية من نظم محاسبية ومصرفية. وفي المقابل نجد أن الضغوط التي تقع على الحكومة هي في قراري مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي، وهما لا يعدوان أداتي ضغط غير منتجات كما فصلنا في مقالنا السابق. مما سبق يتضح لنا أن الفعل (الأخرق) الذي قامت به حكومة الجنوب قد قلب جو التفاوض رأساً على عقب لصالح السودان، وأن كل الضغوط هي في صالح الحكومة ووفدها المفاوض، فعليهم استثمار ذلك إلي أبعد مدي ممكن في كياسة ودهاء سياسي. سيكون هدف حكومة الجنوب الوصول إلي اتفاق حول إعادة فتح الأنابيب بأي شكل من الأشكال، ولكنهم سوف لن يبرزوا ذلك، وسوف يحاولون الممانعة والمناورة، وسوف يحاولون استخدام كرت ضغط قرار مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي إلي أبعد مدي. وفي المقابل يجب أن تركز الحكومة على الملف الأمني بصورته الشاملة، وفيما يتعلق بالفرقة التاسعة والفرقة العاشرة في جنوب كردفان والنيل الأزرق وضرورة سحب أي تواجد عسكري للحركة الشعبية جنوب حدود 1/1/56، وأن يتم طرد حركات دارفور وتجريدها من السلاح. وليس بالضرورة التمسك بمناقشة الملف الأمني أولاً، ولكن ضروري أن يكون هنالك تواصل بين اللجان الفنية المختلفة، فما لم يتم التوصل للاتفاق في الملف الأمني كما تريد الحكومة لا يتم التوقيع على أي اتفاق جديد، فلا بد أن يتم التوقيع النهائي على اتفاق يشمل كافة نقاط الخلاف (والفورة مليون). نقلاً عن صحيفة الأهرام اليوم 3/6/2012م