أظهرت طبيعة الطلبات التى قدمتها الحكومة الجنوبية فى المفاوضات الجارية بينها وبين الحكومة السودانية بأديس أبابا، وعلى وجه الخصوص يوم الثلاثاء الماضي مدي تأثُر دولة الجنوب، بل وتألمها -إذا صح التعبير- من بعض التدابير السيادية التى إتخذتها الحكومة السودانية بغية حماية حدودها واقتصادها عقب نشوب النزاع بين البلدين منذ أشهر خلت. حيث طلب الوفد الجنوبي -بقدر من الإلحاح- رفع حالة الطوارئ التى تفرضها الحكومة السودانية على المناطق الحدودية، كما طلبت خطاً فاصلاً فى المنطقة المقترحة كمنطقة عازلة بين الدولتين . كلا الطلبين واجهها الوفد السوداني فى حينها بالرفض، وكان واضحاً ان الرفض السوداني أحدث جرحاً غائراً لدي الجانب الجنوبي وزاد من معاناته. ومن المعلوم فى هذا الصدد ان الحكومة الجنوبية التى يبدو أنها حين اتخذت قرارها فى مارس الماضي بوقف ضخ النفط كانت تراهن على تعويض آثار القرار عبر استغلال المناطق الحدودية ومناطق التماس فى الحصول على احتياجاتها الغذائية والضرورية سواء عبر عمليات التهريب أو أىّ وسائل أخري مشروعة كانت أم غير مشروعة، ولم يكن قد دار فى خلدها على ما يبدو أن الحكومة السودانية ربما لجأت الى وضع تدابير مكملة للحيلولة دون تفشي عمليات تهريب السلع والبضائع التى كان من المؤكد أنها ستلحق أضراراً واسعة النطاق بالاقتصاد السوداني، فضلاً عن بعض الآثار الأمنية الخطيرة فى ظل الدعم الصريح والمباشر للحكومة الجنوبية للمتمردين الناشطين ضد الحكومة السودانية، وقد وصلت درجة إحكام الحكومة السودانية سيطرتها على المناطق الحدودية، أن أعطت الحكومة السودانية صلاحيات وسلطات واسعة النطاق للشرطة والسلطات الامنية المختلفة بإتخاذ كافة التدابير لمنع أىّ عمليات للتهريب أو إخلال بالأمن فى تلك المناطق، وقد زاد من شدة هذه التدابير الخطأ القاتل الذى ارتكبته الحكومة الجنوبية بإقدامها على إحتلال منطقة هجليج السودانية النفطية، والتى توجد فيها المنشآت النفطية التى يعتمد عليها السودان بصفة أساسية . وبالطبع اختلَّ الحساب الجنوبي مع هذه التدابير السودانية المغلظة، ولهذا كان أمراً موجعاً لجوبا، دفعها دفعاً لطرح الأمر ضمن ثنايا المفاوضات على الرغم من أنه أمر يخص السودان وشئونه الداخلية، لأن من البديهي ان السودان اتخذ هذه التدابير الأمنية على أراضيه وضمن حدوده وليس خارجها أو داخل أراضي دولة الجنوب؛ ولكن كان واضحاً ان شدة الآثار الناجمة عن حالة الطوارئ وإنعكاسها السالب على الاوضاع فى دولة الجنوب جعلت الحكومة الجنوبية تضع أصبعها بكل وضوح وتشير الى موضع الألم راجية أن يطبِّبَها الوفد السوداني ويضع عليه الدواء! هذه الاشارة الجنوبية الهامة، والتى كشفت عمق الجرح الجنوبي جراء أخطاءه المتسلسلة غير المحسوبة النتائج، إن هي إلاّ نقطة ضعف بالغة الخطورة تكفلت الظروف وحدها بإظهارها بهذا القدر فى طاولة المفاوضات لتؤكد ان الحكومة الجنوبية حين اتخذت قرار وقف ضخ النفط لم تحسب حساباته جيداً، وزادت الطين بلاً حين أردفت ذلك بالهجوم واحتلال خاطئ على منطقة هجليج لتهيل تراباً كثيفاً علي القصبة الهوائية التى تمدها بالهواء والتى انسدّت إنسداداً كاملاً بلغ كماله أنها صرخت بسببه طالبة معالجته! ومن المفروغ منه أن هذه النقطة بالذات سوف تمثل عنصر ضغط مستمر على الوفد الجنوبي وستظل كذلك حتى يقع الانهيار الكبير المنتظر فى اقتصاد الدولة الجنوبية فى يوليو المقبل اذا لم تعجل جوبا على التعاطي مع بنود المفاوضات بالقدر المطلوب من الجدية والإهتمام وحسن النيّة .