على الرغم من إنقشاع غيمة النزاع بين دولتيّ السودان وجنوب السودان فى الاسبوع قبل الماضي بطيّ صفحة ملف النفط بإعتبارها فى نظر الكثيرين المعضلة الكبري فى النزاع، إلاّ أنه فى الواقع لم يكن ملف النفط رغماً عن كل ذلك سوي قطرة فى محيط هادر من الخلافات التى يصعب القول ان بالإمكان التوصل بشأنها الى حل مرضي فى القريب العاجل. القضية أعقد مما يتصوّر الجميع، حيث لا تزال فى جيب الجانب الجنوبي ذات الأوراق المؤثرة التى ظل يمارس عبرها اللعب البالغ الخشونة والمتمثلة فى القضية الأمنية والنزاع الناشب حول حدود الدولتين. ولعل أصدق تعبير عن هذه الحقيقة ما ورد على لسان المبعوث الأمريكي الخاص الى السودان برنستون ليمان فى اللقاء الذى أجرته معه قناة الجزيرة فى الثالث والعشرين من يوليو الماضي، حيث أشار ليمان الى أنَّ المناوشات في الحدود تهدد بإشعال حرب أوسع نطاقاً بين الجانبين. ويضيف ليمان (لقد سُرِرت بالهدوء الذى ساد الحدود وهو ليس هدوءاً تاماً، وقضايا الحدود صعبة، وهى لا تتعلق بالحدود فقط ولكنها تتأثر بالنزاع فى جنوب كردفان والنيل الازرق، وآمل أن يفي الطرفان بإلتزاماتهما بنشر مراقبين على الحدود؛ والعملية تتطلب على المدي الطويل كيفية حل النزاعات الحدودية بطريقة نهائية، وهنالك خلاف كبير بين الجانبين حول ذلك. من الواضح هنا أن ليمان يعرف حقائق وجوهر النزاع وتعقيداته، وهو حين يورد هذه الاشارة – قصد أم لم يقصد – إنما يشير لورقة الجنوب التى يحتفظ بها فى مواجهة السودان. وليس بعيداً عن ذلك ان لميان -بخُبث أمريكي لا تخطؤه العين- عمل على ضرورة حل الملف النفطي كإستراتيجية وضعتها بلاده حتى تجنِّب جوبا الآثار المميتة لقرار وقف ضخ النفط . صحيح أن السودان حرص غاية الحرص على ربط حل بقية الملفات بإنفاذ ما تمّ إحرازه فى ملف النفط، وصحيح أن الشغل الشاغل الحقيقي للسودان هو فى كيفية حل الملف الأمني بالكامل وحلحلة كافة القضايا الخلافية – حزمة واحدة – حتى تسير كل الأمور متناسقة وعلى قدر التساوي المطلوب، ولكن لا يبدو أن الجانب الجنوبي ومن وراءه الجانب الامريكي يولي إهتماماً لهذه النقطة، ولهذا فإن أبرز مخاطر المفاوضات فى المرحلة المقبلة هو تخلِّي السودان – لسبب أو لآخر – عن أوراقه الرئيسية المؤثرة التى لا يزال هو الآخر يحتفظ بها بقوة، وتتمثل فى ضرورة إحكام السيطرة التامة على الحدود، والحيلولة دون شيوع فوضي تهريب الغذاء والمواد البترولية والاحتياجيات الاستهلاكية؛ بل إن تمسُّك السودان بفرض حالة الطوارئ المعلنة على الحدود يمثل استراتيجية مهمّة للغاية حتى لا تكون جوبا قد حصلت على كل شيء لمجرد أنها وافقت على سعر تصدير النفط. لقد كان لقاء ليمان ذاك بقناة الجزيرة بمثابة (خارطة طريق متقدمة) لكيفية التفاوض بما يحقق للجانب الجنوبي ما يصبو اليه وقد تلاحظ أنَّ لميان راوغ كثيراً فى إجاباته، حيث ألقي باللائمة فيما يخص الحروب فى دارفور وجنوب كرفان والنيل الازرق على الحكومة السودانية وحدها! مع أن اقل الناس حظاً بالمعرفة السياسية يعلم ان واشنطن بطريقة أو بأخري هى من أشعلت تلك الاوضاع حتى تحول دون بلوغ علاقات البلدين – واشنطنوالخرطوم – مرحلة التطبيع الكامل. كان واضحاً ان ليمان يسعي للمزيد من تعقيد الاوضاع بين الخرطوموجوبا وحلحلة القدر اليسير فقط الذى يسمح لجوبا بإستئناف ضخ نفطها. إن مرحلة التفاوض المقبلة رغم الانفراج البادي فى علاقات الخرطوموواشنطن هى مرحلة بالغة الحساسية والخطورة معاً، فهي النقطة التى تود واشنطن أن تعبر فيها بدولة الجنوب من أوضاعها الحالية لأوضاع أفضل وذلك عن طريق التظاهر بأنها تسعي لتطبيع علاقاتها مع السودان، وهى بالفعل فى حاجة الى قدر من هذا التطبيع ولكن عنصر الخداع هنا ظاهر ومن غير المحتمل أن تنجح فى مداراته. وعلى كلٍ، فإن ليمان على الاقل أفصح عن استراتيجية وإن لم تفصح عنها الإدارة الامريكية صراحة ، إلاّ أن من الضروري أخذها مأخذ الجد ووضعها فى الإعتبار.