يدرك المتتبع للحراك الاجتماعي، أن الجرائم الاقتصادية كانت وما زالت تتصدر وتفوق معدلاتها كافة أنواع الجرائم الأخرى.. كما تؤكد ذلك الإحصاءات الجنائية. وتبين أن الجريمة الاقتصادية تطورت في السنوات الأخيرة، بل ظهرت لها أشكال لم تكن معروفة من قبل، مثل اختراق بطاقات السحب الآلي وسحب أموال وودائع عملاء بنوك تجارية دون علم أصحابها. وفي معرض البحث لمعرفة العوامل التي أدت لتنامي معدلات الجرائم الاقتصادية إلى مستويات غير مسبوقة، تباينت آراء أساتذة العلوم الاقتصادية كما تعددت وجهات نظر علماء علم الإجرام criminology، ولكن هنالك شبه إجماع في الرأي لدى علماء الاجتماع على أن تزايد ميول غالبية الناس لإشباع حاجاتهم المادية، تجاوز بكثير حدود إمكانياتهم وقدراتهم المالية، كما أن الميل للاستهلاك يولد باستمرار رغبات واحتياجات لا تتوقف عند حد. وهنالك من يرى أن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة جرّت معها سلسلة من الظواهر الاجتماعية الأكثر ارتباطاً بالجريمة الاقتصادية، وأن تداعياتها التي انسحبت على معظم دول العالم، ألقت بظلال كثيفة على المجتمعات وعلى الأفراد تباعاً. وأمام التزامات مالية مسبقة وجد الآلاف أنفسهم في ظروف ماحقة فرضتها المطالبات المالية من قبل الدائنين، سواء كانوا أفرادا أو مصارف. أمام تنامي ظاهرة الجريمة الاقتصادية وآثارها على التنمية الاقتصادية، فضلا عن تأثيرها على الأمن الاقتصادي والمجتمعي، سارع العديد من الدول باتخاذ حزم من التدابير الاحترازية، لاحتواء تداعيات الجرائم الاقتصادية وإبطال مفعولها. يتصدر التخطيط الوقائي الحزم الوقائية التي جرى تجريبها في بعض بلدان أمريكا اللاتينية. ويقصد بالتخطيط الوقائي الآلية التي تتخذها الجهات المعنية بمكافحة الجرائم الاقتصادية، باستخدام الطرق العلمية القادرة على التنبؤ العلمي بمسار المتغيرات الاقتصادية المتسارعة، للسيطرة على أكثر العناصر تأثيراً بأقل تكلفة وأيسر جهد. وتجمع الآراء أن التخطيط الوقائي يعتبر بجميع المقاييس عملية متعددة الجوانب، ومسؤولية لا تقع على عاتق الشرطة وحدها، فهناك مهام يجب أن يتحملها جهاز الأمن الاقتصادي، خصوصاً في ما يتصل بتوفير المعلومات الأساسية المرتبطة بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية ذات العلاقة، لعل من أهمها القدرة على تحليل الخارطة السكانية والفوارق والتمايزات الاجتماعية، ومستويات التعليم وأوضاع سوق العمل ومعدلات البطالة، والعادات الاستهلاكية بين المواطنين والمقيمين، والأضرار التي قد تنجم عن السلوك الإجرامي. من جهة أخرى، لا ينبغي الفصل بين التخطيط الوقائي لحماية الاقتصاد الوطني ومسارات خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التي تهدف إلى تحقيق أعلى مستوى من النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية. ولعله من الثوابت أن التخطيط الوقائي ينهض أساسا على الخطة الاستراتيجية المرتبطة بأهداف محددة، تنطق من مفهوم راسخ يرى أن الوقاية من الجريمة هي أساس مكافحتها، ذلك أن المكافحة تبدأ بالوقاية وتنتهي بالتأهيل الاجتماعي والرعاية اللاحقة. ومن جهة أخرى يفترض أن تشتمل على خطط فرعية يعهد بها إلى بعض الأجهزه المعنية بالبعد الوقائي، لرصد أي أفعال أو مخططات تهدد الاستقرار الاقتصادي. ويرى علماء الاقتصاد أن مقومات التخطيط الوقائي لمناهضة الجرائم الاقتصادية، تستند إلى أربعة مرتكزات أساسية: * الإحاطة بالواقع الاقتصادي ومحركاته المحلية والخارجية. * رصد الاحتياجات الضرورية لمعيشة أفراد المجتمع والميول الاستهلاكية. * الوقوف على أبعاد الخطة الاستراتيجية الاقتصادية. * متابعة الحراك الاقتصادي الداخلي. وهنالك من يدعو لربط التخطيط الوقائي ب"المرصد الاقتصادي"، الذي يشبه غرفة العمليات التي تقوم عبر الاستشعار عن بعد، بمتابعة سير الحراك الاقتصادي وقياس معدلات النمو والتضخم والبطالة، باعتبارها من أهم المؤثرات على السياسة الاقتصادية، ومن ثم على الأمن الاقتصادي. بقي أن نشير إلى أن الأزمة الاقتصادية العالمية، نبهت المؤسسات الاقتصادية على جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لضرورة المراجعة المستمرة للتشريعات الاقتصادية، والعمل على سد الثغرات التي يحسن استغلالها ضعاف النفوس وذوو الميول الانحرافية، مما يستلزم جهودا مضاعفة من قبل أجهزة الأمن الاقتصادي الوقائي، للتفوق على تلك الشبكات الرقمية وإبطال مخططاتها الإجرامية. المصدر: البيان 11/6/2012م