فى الوقت الذى تعرب فيه واشنطن -بإستمرار- عن قلقها البالغ إزاء تعثر محادثات القضايا الخلافية بين الخرطوموجوبا فى أديس أبابا، وما تفتأ تحث الطرفين على العمل على حلحلة هذه القضايا، فإن واشنطن نفسها تعمل على عرقلة وتعقيد هذه المحادثات وإضرام النيران حولها بطرق ووسائل شتي. ففي الاسبوع الماضي رعت واشنطن إجتماعاً ضم قيادات متمردة من حركات دارفور المسلحة فى ظل حضور مكثف لمسئولين من الحكومة الجنوبية وكان الهدف من الاجتماع محاولة إجراء اصلاحات هيكلية داخل ما يسمي بالجبهة الثورية لبعث الحياة فيها، بعد أن بدأت تحتضر. الاجتماع انعقد فى مقر معهد كارنغي للسلام بالعاصمة الامريكيةواشنطن، والحضور الامريكي المعزز بحضور اسرائيلي كان لافتاً للغاية، ولم يكن هذا الاجتماع (التخطيطي) هو الأول، ففي أواخر مايو الماضي شهدت مدينة ريتشموند إجتماعاً أكثر سوءاً وخطورة ضم عناصراً ممن يطلقون على أنفسهم (الهامش السوداني)! وكان من الواضح من خلال ما طُرِح من أوراق ورؤي أن المقصد من الاجتماع هو خلق حزام عنصري إفريقي لإعادة انتاج الأزمة السودانية من جديد فيما يُعرف بالجنوبيون الجدد، أو السودان الجديد. إجتماع ريتشموند هو الآخر تم برعاية أمريكية خالصة، حتى إن إحدي مخرجاته تحدثت عن تزويد عناصر التحالف بصواريخ (ستنغر) لمواجهة مزاعم القصف الحكومي. هذين الإجتماعَين اللذين رشحت عنهما أنباء متفرقة هنا وهناك، وعلى ضآلة حجم النتائج المستخلصة منهما، إلاّ أنهما دون شك يشكلان مخاطراً سياسية وأمنية بالغة على الأمن القومي السوداني، الأمر الذى يثير التساؤل بشدة حول ما ترمي اليه واشنطن جراء هذا التصعيد غير المبرر. الاجابة السهلة التى من الممكن أن يبادر بها أىِّ مراقب، هى أن واشنطن -كدأبها مع السودان منذ عقود- تريد محاصرة النظام الحاكم فيه وإضعافه تمهيداً لإسقاطه ؛ هذا ما يبدو فى الظاهر لأنَّ من الطبيعي ان الحكومة السودانية ذات طابع ثوري رافض للهيمنة الامريكية وله خلفية آيدلوجية معروفة، غير أن هذا فى الواقع ليس هو الدافع الحقيقي، ذلك أن واشنطن كانت وما تزال تتبع استراتجيات شتي فى تعاملها مع الأنظمة التى لا تروق لها ولكنها مع النظام الحاكم فى السودان تتبع استراتيجية مختلفة للغاية، فقد أدركت واشنطن ان النظام الحاكم فى السودان عميق فى عمق الحياة السياسة والاجتماعية والاقتصادية السودانية بحيث يصعب إن لم يستحيل إيجاد (حد فاصل) أو وضع خط عريض بين المنظومة السياسية الحاكمة وجموع شعب السودان، وهذه نقطة فارقة فى الحقيقة جعلت نظام الحكم السوداني الحالي شديد التميز عن أىّ نظام سبقه فى السودان. هذه هى معضلة واشنطن، وقد تفاقمت أضعافاً مضاعفة عقب انفصال جنوب السودان، إذ إزداد إلتصاق السودانيين بحكومتهم فإن لم يكن من أجل تأييدها، فعلي الأقل صوناً وتمتيناً للواقع السياسي والاجتماعي فى ظل التهديدات التى باتت تشكلها الحكومة الجنوبية على الأمن القومي السوداني وسعيها للعب دور داخل الساحة السياسية السودانية. لقد أصبح من الواضح ان واشنطن تمضي فى مسارين بشأن تعاملها مع السودان فهي تسعي لنزع هويته الثقافية القائمة بشتي السبل تمهيداً لإلحاقه بالهوية الثقافية الافريقية المطعمة بمذاق علماني، وهى تستخدم بهذا الصدد عناصر الحركة الشعبية والحركات الدارفورية المسلحة وتشجع جوبا على ذلك، وفى المسار الآخر تحاول إضعاف الموقف التفاوضي للحكومة السودانية فى المحادثات الجارية بينها وبين الحكومة الجنوبية عبر وضع عقبات الخرائط، وتعقيد ملف الحدود والملف الأمني حتى تتضجر الخرطوم وترفض التفاوض ليتم اللجوء الى إجراءات عقابية، أو ترضخ الخرطوم وتقدم التنازلات المطلوبة والتى لن يتوقف سيلها حتى يتجاوز الزبي!