لا ندري لماذا حددت المعارضة السودانية يوم السادس والعشرين من الشهر الجاري موعدا يتفق فيه رؤساء أحزابها على برنامج وطني يشكلون بعده حكومة انتقالية تستمر ثلاث سنوات، والسؤال هو هل مسألة تشكيل الحكومة تعتمد فقط على اتفاق أحزاب المعارضة، أم أن الأمر يتطلب موقفا من نظام الحكم القائم، ما يبدو هو إن أحزاب المعارضة لا تلقي بالا لذلك، وهي تعول على ما تسميه الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وتعتقد المعارضة أن هذه الأوضاع قد تدفع إلى حراك شعبي يحقق أهدافها، وربما كان ذلك ممكنا، لكن كيف تكون المعارضة متأكدة من أن ذلك سيتحقق بمجيء السادس والعشرين من الشهر الجاري، هذا هو السؤال الذي لا يبدو أن فاروق أبوعيسى الناطق باسم تحالف الاجماع الوطني يمتلك الإجابة الحاسمة عليه إذ قال أبوعيسى في مؤتمر صحافي إن قوى تحالف الاجماع الوطني اتفقت على البديل الديموقراطي، ويتمثل هذا البديل في حكومة قومية يحكمها برنامج متفق عليه من سائر القوى الوطنية في السودان. لكن الحزب الوطني الحاكم قلل مما ذهب إليه فاروق أبوعيسى، كما قلل من قدرة المعارضة على تحريك الشارع السوداني للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يواجهها المواطنون .وذهب الحزب الوطني الحاكم إلى أبعد من ذلك إذ وصف الحكومة القائمة في السودان بأنها حكومة ديموقراطية جاءت عن طريق الانتخاب الحر، وقالت قيادة الحزب، على الرغم من ذلك فإنهم لا يطمحون لاحتكار السلطة ومن يريد أن يشارك فيها فليتقدم وبالطبع لا يكون ذلك بإسقاط النظام بل بالتعاون معه. لكن هذه الدعوة لم تجد آذانا صاغية، فقد دعت الحركة الشعبية - قطاع الشمال- الجماهير إلى الخروج إلى الشارع لإسقاط النظام الذي قالت إنه يوجه سياساته ضد الفقراء .وقال ياسر عرمان الأمين العام للحركة، إنه يدعو إلى التنسيق بين كافة فصائل المعارضة، التي يجب من وجهة نظره أن تعمل بالتنسيق مع بعضها بعضا من أجل تحقيق هدف الإسقاط وإقامة البديل الديموقراطي، الذي سماه دولة المواطنة المتساوية والاجماع الوطني. وقال عرمان إنه في الوقت الذي يزداد فيه قادة المؤتمر الوطني تخمة فإن جماهير الشعب تزداد فقرا ناهيك بالسياسات الخاطئة التي أدت إلى انفصال جنوب السودان، دون أن يشير إلى أنه كان من العناصر التي ساعدت على هذا الانفصال، وذهب عرمان إلى القول بأن إصلاح الاقتصاد السوداني يحتاج إلى سياسات تنحاز إلى الفقراء وتعيد التوازن بين الريف والمدينة، والاهتمام بقطاع الخدمات الذي لم يعد له وجود في السودان في الوقت الحاضر، وذهب عرمان إلى تهنئة الحزب الشيوعي باختيار قيادته الجديدة بزعامة محمد مختار الطيب، ومن الطريف أنه حدد ثلاثة مجالات تعمل فيها الحركة الشعبية مع الحزب الشيوعي، وهي وحدة كافة القوى المعارضة، واسقاط النظام وإقامة البديل الديموقراطي، ولم يحدد كيف يمكن للحزب الشيوعي أن يقيم نظاما ديموقراطيا بينما هو ينطلق من أيديولوجية شمولية لا تعترف بالآخر خارج حدودها. وفي الوقت الذي عمل فيه عرمان على انفصال دولة جنوب السودان، فهو يدعو الآن إلى وحدة دولتي السودان على أساس دولتين مستقلتين، وهو ما يؤكد أن ياسر عرمان بدأ يدرك الآن أن وحدة السودان كانت في الأساس وحدة جغرافية. وقد أدرك الجنوبيون بعد الانفصال أنهم لا يستطيعون تحقيق استقلال كامل دون الرجوع إلى الشمال مرة أخرى، وقد جرب الجنوبيون من خلال حادثة 'هيجليج' وغيرها أن استخدام أسلوب العنف لن يحقق لهم أهدافهم وهم يريدون الآن العودة إلى وضع قديم لن يتحقق خاصة عندما تكون النوايا غير صافية. لا سيما أن دولة جنوب السودان مازالت تسعى إلى ما تسميه التحكيم الدولي من أجل تبعية بعض المناطق إليها، وذلك قول فيه كثير من التجاوز لأن السودان لم يكن في الماضي دولتين منفصلتين تم توحيدهما بل كان قطرا واحدا وبالتالي سيصعب على جنوب السودان أن يثبت أن بعض المناطق في الشمال كانت تابعة له إلا إذا كان الجنوب ينطلق من توجهات عنصرية. وعلى الرغم من ذلك فإن الدولة في شمال السودان قالت إنها لا ترفض فكرة التحكيم الدولي التي تطالب بها حكومة جنوب السودان، ولكنها تريد أن تتأكد من جدية دولة الجنوب في ما تدعو إليه وأنها ستلتزم بأي تحكيم يتم على أسس موضوعية. وعلى الرغم من أن كثيرا من قوى المعارضة تسير في إطار برنامجها القديم، فإن الحكومة السودانية تدرك أنها تواجه مشكلة اقتصادية خطيرة، خاصة بعد توقف عائدات نفط الجنوب، وذلك ما دعا الرئيس عمر حسن البشير إلى القول بأنه سيحث مجلس الشورى في خطابه على إصدار توصيات بخصوص الأزمة المالية، وكان رئيس مجلس الشورى النور محمد ابراهيم قد أكد أن انعقاد المجلس جاء في ظروف اقتصادية دقيقة تمر بها البلاد. ويبدو من كل ما يجري في السودان أن التركيز موجه في الأساس إلى حماية الوضع القائم دون وضع تصورات جديدة لما يكون عليه حال البلاد مستقبلا، ذلك أن السودان لا يختلف عن سائر الدول العربية من حيث أن التركيز هو على كيفية المحافظة على السلطة أكثر من البحث عن نظام يؤسس لبناء الدولة على أساس حديث، لذلك فإن نظام الحكم القائم لن يتعب نفسه في وضع تصورات جديدة لإصلاح نظام الدولة بل هو يتخذ فقط إجراءات تبقي على السلطة مع التقليل من نفوذ المعارضة أو قدرتها على تحريك الشارع، ولكن حتى لو تحرك الشارع في السودان فإن ذلك ليس ضمانا لتغير الأوضاع السياسية لأن الشارع السوداني تحرك مرتين ضد أنظمة شمولية، الأولى في ثورة أكتوبر عام ألف وتسعمئة وأربعة وستين حين أسقط حكم الرئيس الفريق ابراهيم عبود، والثانية في عام ألف وتسعمئة وخمسة وثمانين عندما تحرك الشارع السوداني لإسقاط نظام الرئيس جعفر النميري، وعلى الرغم من أن هاتين الثورتين انطلقتا من الأسباب نفسها التي تنطلق منها ثورات الربيع العربي الآن فإنهما لم تستطيعا إحداث التغيير المطلوب في السودان، والسبب من وجهة نظري هو الأزمة الثقافية التي تعيش فيها معظم الدول العربية التي خضعت زمنا طويلا للاستعمار وترسخ في أذهان قادتها أن التغيير يعني إقامة حكومة وطنية وليس تأسيس نظام حكم حديث، وبما أن معظم الحكومات الوطنية في العالم العربي تقوم على أسس قبلية وطائفية وعرقية وعقدية، فيصعب تجاوز هذا الواقع من أجل إقامة نظم للمؤسسات يكون هدفها إدارة شؤون البلاد تحت حكم القانون ومن أجل تحقيق الأهداف العليا للشعب. ومؤدى قولنا أن تحرك الشارع السوداني تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية لن يسفر أكثر مما أسفرت عنه انتفاضات الربيع العربي من حالة ضبابية، والمهم هو أن يتوقف الناس ليتعلموا درسا جديدا وهو أن إسقاط نظم الحكم لا يؤدي بالضرورة إلى التغيير. المصدر: القدس العربي 21/6/2012م