بمقياس السياسة وتعرجاتها ومنعطفاتها التى لا تنتهي فإن من غير المستبعد أن تمضي الأمور فيما يخص العلاقة بين واشنطنوالخرطوم – عبر الجسر الجنوبي – الى وضع أفضل قليلاً. ليس من المتوقع بالطبع أن ينتهي العداء الأمريكى السافر بضربة واحدة أو بجرّة قلم بين البلدين ليتحول الى وُد وصفاء سياسي على نحو دراماتيكي، ولا من المتصوَّر أن ينفرط عقد التشاحن المتراكم عروةً عروةً بذات الوتيرة التى جعلت البَلدان على هذه الدرجة من التباعد السياسي منذ عقود. ولكن هناك ما يدعو للإعتقاد أن الأمور ماضية بإتجاه آخر؛ فالطرح الجنوبي فى أديس أبابا بشأن سعر نقل النفط يحوي مؤشراً وإن كان بدرجة ما أقل على أنّ واشنطن على أقل تقدير بدأت فى تغيير جياد عربتها وهى تهمّ بعبور النهر السوداني. المقترح الجنوبي ليس مقترحاً جنوبياً صرفاً، هنالك حسابات أمريكية جرت قبل طرحه، وأفضت اليه. ربما كانت واشنطن متأثرة بجراحها جرّاء تسرُّع جوبا بوقف ضخ النفط بما جعل من القرار فى حدِّ ذاته تعقيداً غير ضروري لأزمة هى فى الأصل معقّدة ولا تحتاج لمزيد من التعقيد. وربما كانت واشنطن توجِّه لوماً مبطناً لجوبا بضرورة سحب الملف النفطي تماماً من حزمة القضايا العالقة لأنه ملف لا يحتمل المناورات والمجادلات والتلاعبات السياسية؛ وعلى كلٍ فإن واشنطن لم تمانع فى كل هذا الخضم من أن تفتح مسامات صغيرة فى الجدار العازل بينها وبين الخرطوم، فقد كان مفاجئاً للغاية أن واشنطن فى مسلك سياسي نادر سمحت برفع العقوبات عن السودان فيما يخص برمجيات تشغيل سكر النيل الابيض، أحد أهمّ وأضخم المشروعات الاقتصادية السودانية الاستراتيجية فى الأعوام الخمس الماضية. فقد كشفت صحيفة (فاينشيال تايمز) مؤخراً ان واشنطن سمحت لشركة (جنرال إلكتريك) العاملة فى البرمجيات بمواصلة عملها فى سكر النيل الأبيض وسط السودان. القرار جري فى صمت ولمرّة واحدة ودون إيراد أىِّ حيثيات أو إشارات سياسية، كما لم يسمع أحد أن الخرطوم لهثت وراء واشنطن فى هذا الصدد أو قدَّمت طلباً رسمياً. هذا التطور بحساب طبيعة العلاقة بين البلدين يعتبر تطوراً إستراتيجياً كبيراً يصعب التقليل منه وإن لا يجوز النظر إليه بتفاؤل بالغ، فهو على أيّة حال أحدثَ نقلة وإن كانت محدودة إلاّ أنها جديرة بالتأمل خاصة وأن القرار الأمريكي تمَّ فى عام إنتخابات من النادر أن تُتخذ فيه قرارات كبيرة كهذه - بدون مقابل أو حتى بمقابل - وخاصة أن البيروقراطية الأمريكية المعروفة بتعقيداتها كانت تستلزم وقتاً أطول لأمر كهذا، وقد رأيناها فى شأن رفع إسم السودان من قائمة الإرهاب، فقد إنقضي أكثر من عامين والبيروقراطية الأمريكية تراوح مكانها . وخاصة أيضاً أن واشنطن هى صاحبة الصياغة الرئيسية فى القرار 2046 الذى حدّد مهلة 3 أشهر لجوباوالخرطوم لحلحلة القضايا الخلافية بينهما، وتبقي فقط أقل من خمسة أيام لإنقضاء المهلة الزمنية . ليس من المعتاد ان تقف واشنطن من الخرطوم موقفاً مرناً كهذا وهى التى ظلت تتربّص بها وتضع الشِراك الخداعية فى طريقها والكمائن السياسية الغليظة. هنالك أيضاً الأبواب والنوافذ التى فتحتها واشنطن للوزير السوداني على أحمد كرتي والذى يجري مشاورات فى نيويورك بشأن القرار 2046 حيث تشير متابعات (سودان سفاري) الي إهتمام خاص توليه واشنطن لهذه المشاورات فى ظل إحتمال إحداث إختراق على صعيد المفاوضات الجنوبية السودانية فى أديس رغم ضيق الوقت. مجمل الأمر ودون إسقاط النظر الموضوعي والتوقعات غير المحسوبة، إن واشنطن تبدو أقل حِدَّة وغلظة تجاه الخرطوم. ربما عاد الأمر الى إداركها أن الخرطوم لم تضعُف رغم كل ما لاقته من مصاعب أو أهوال، أو ربما أعادت قراءة الوضع ولم تجد منفذاً آخر؛ أو ربما كانت ترتِّب لآفاق أبعد لا تُري فى الوقت الراهن بالعين السياسية المجردة، ففي النهاية فإن هذه تقديرات السياسة وتعرجاتها ومنعطفاتها التى لا تنقضي.