بالحسابات الإقتصادية والسياسية فإن الإتفاق النفطي الذى تمكن طرفا الأزمة، جنوب السودان والسودان من التوصل إليه بأديس أبابا مؤخراً ليس فيه ما يشير الى أن الجانب الجنوبي -الذى بادر أولاً بإشعال الأزمة- قد كسب شيئاً جديداً، أو حقق هدفاً ما، بل على العكس يمكن أن نقرأ جملة نقاط، تعتبر جميعها خصماً على المواقف السياسية الجنوبية . فمن جهة أولي فإن جوبا وبعد أن كانت قد تصلّبت وراء سعر دولار واحد فقط للبرميل وظلت لأشهر تتمترس خلف هذا الموقف تخلت عن هذا التصلب ولجأت لمضاعفة الرقم 25 مرة لكي يستقر الإتفاق على ذلك. مضاعفة الرقم بهذا القدر من الوجهة الاقتصادية والسياسية يعني إما أن جوبا كانت من الأصل مخطئة فى موقفها ولم تكن تملك موقفاً تفاوضياً جاداً، وأنها وبدون سابق دراسة خاضت فى قضية النفط وعقّدتها بغير داعٍ؛ أوأنها كانت لها حساباتها ولكن لم تكن تلك الحسابات واقعية ولا مطابقة للواقع وأضطرت لإعادة اصطحاب الواقع بعد كل هذه الأشهر الطوال وما خلّفته من آثار سالبة على إقتصادها وسمعتها الدولية. ومن جهة ثانية فإن التوصل إلى إتفاق كهذا كان من الأوفق أن يتم فى ظل تدفق النفط فقد كان ذاك كفيلاً بحلحلة قضايا الدولتين الاقتصادية، وكانت عائدات النفط سوف تسد الثغرات لأيّ إجراءات اصلاحية أو تقشفية على النحو الذى لجأ لها كل طرف، ولهذا لا يُعرف مطلقاً هنا ما الحكمة التى حدت بجوبا بوقف ضخ النفط ما دام أنها كانت لا محالة عائدة لذات الحل، بكُلفة أكبر مما عرضته عشرات المرات؟ بل علي العكس فإن إيقاف ضخ النفط زاد من خسارة جوبا الاقتصادية ليس فقط على صعيد التعامل الاقتصادي مع سوق النفط الخارجي ولكن على صعيد الأمور الفنية والاجراءات التى لابُد من القيام بها لإعادة ضخ النفط علي أنابيب الصادر، وهى من المؤكد أمور لها تكلفتها المالية وحساباتها التى تزيد من خسائر الحكومة الجنوبية إذ تتحمّل هى وحده دون غيرها كُلفة إعادة إصلاح الأنابيب وجعلها صالحة لإعادة الضخ والتصدير. من جهة ثالثة فإن التساؤل يثور بقوة هنا عن جدوي تقديم عرض بقيمة معينة (دولار واحد) كما فعلت الحكومة الجنوبية، فى ظل عدم معرفة ماذا تعني كلفة الدولار الواحد ؛ هل هى كافية عمليّاًً لإجراءات التصدير؟ هل هي واقعية ؟ لأنّ عدم الواقعية سيقودنا إلى إفتراض أن الجانب الجنوبي لم يكن جاداً وأميناً فى مواقفه التفاوضية وهذه من شأنها أن تجعل من أىّ قضايا موضع تفاوض بين الجانبين فيها شك حيال ما يعرضه الجانب الجنوبي، وما إذا كانت عروضه مبنية على حسابات واقعية أم مجرد خبط عشواء وتلاعُب بدون معني؟ وعلى صعيد موازي فإن الجانب السوداني بدا فى موقف أفضل؛ ذلك أن كان ما عرضه من قيمة للنفط 36 دولار، وإذا ما قارناها -إقتصادياً وسياساً- بالقيمة التى تم التوصل اليها فى الإتفاق فقد تنازل الجانب السوداني عن 11 دولار، وهو تنازل بصفة عامة لا يعتبر فيه مبالغة أو إجحاف بالموقف التفاوضي السوداني عموماً ويمكن النظر اليه بإعتيادية وعلى نحوٍ متوقع ما دمنا فى سياق عملية تفاوضية. فالفارق هنا محسوب ومعقول على أىِّ حال، بأكثر من الفارق الشاسع ما بين ما كانت قرّرته جوبا وما تمَّ الإتفاق حوله. من جانب ثاني، فإن الجانب السوداني قد يكون أقصي ما خسره أنه لم يتم تقديم ملف الأمن الذي يهتم به كثيراً على الملف النفطي، ولكن حتى هذه فقد تم تداركها بأن تم ربط إنفاذ الإتفاق النفطي بإنهاء الخلاف فى الملف الأمني، وهو ما يجعل من الملف الأمني عملياً متقدماً على الملف النفطي رغم الإختراق الكبير الذى تم بشأنه. وعلى هذا الأساس فإن جملة المكاسب والخسائر يبدو أنها قد إنصبّت بكاملها على الجانب الجنوبي وإن تظاهر بغير ذلك.