مع أنّه كان من المفروغ منه أن جوبا متراجعة عن موقفها بشأن ملف النفط لا محالة وأنها فى نهاية المطاف -سواء كانت تملك خيارات أم لا- عائدة الى السودان نظراً لمزايا كثيرة يضيق المجال عن ذكرها هنا توفرها لها عملية تصدير نفطها عبر السودان؛ إلاّ أن ما ترتّب على هذا الموقف والدوران الطويل للغاية الذى لجأت اليه جوبا لتصل الى ذات النتيجة، أوجد جملة آثار سياسية بات من المتعيّن على جوبا أن تضعها فى حساباتها وأن تتعايش معها لسنوت قادمات بقدر ما يمتد الأجل السياسي لحكم الحركة الشعبية هناك. فى مقدمة هذه الآثار السياسية ان جوبا فى الغالب تتخذ مواقفها بناء على مجرد إنطباعات ومعطيات آنية عابرة لا مجال فيها للنظر الاستراتيجي البعيد المدي الذى يستحق الإحترام، فقد كان الكل يعلم ان تصدير النفط الجنوبي عبر السودان خيار إستراتيجي أوحد ما من خيار على المدي القريب غيره، وكان الكل فى إنتطار ما قد يتفتق عنه عقل جوبا إزاء حقائق واقعية لا سبيل للقفز فوقها أو تجاهلها هى بحكم الطبيعة والجغرافيا ومعطيات التاريخ حقائق حتمية وما من عاقل هنا يمكن ان يقول إن مجرد حصول جوبا على تخفيض وصل الى 10أو 11 دولار ما بين السعر الذى كانت قرّرته الخرطوم وأثار إستياء جوبا ورفضها فيما سبق، والسعر الذى تمّ التوصل اليه مؤخراً يشكل نجاحاً أو نصراً سياسياً أو إقتصادياً؛ فمثل هذه الحسابات الجانبية لا تُوضع فى الإعتبار عند حساب الربح والخسارة من الناحيتين السياسية والاقتصادية . ولهذا يمكن ان نستخلص هنا أن جوبا ما كسبت شيئاً طوال هذه الحقبة المنصرمة مهما حسبنا ودققنا فى الحساب وهو ما يُستفاد منه -فى المستقبل- أن التفاوض مع جوبا غالباً لا يسفر عن شيء جديد ذي بال، ولعل أكثر ما يدعم هذه الفرضية جملة موقف مماثلة سابقة منذ أن كانت جوبا شريكة فى حكم السودان كله فى الفترة الإنتقالية، فقد دخلت فى خلافات عديدة وإتخذت مواقف هائلة وداوية أثارت قلق المراقبين ولكنها كانت فى خاتمة المطاف تعود وبراءة الأطفال فى عينيها - لذات الموقف الذى حادت عنه دون أىّ جديد! من جانب ثاني، فإن أهمّ الآثار السياسية ان أقصي ما هدفت اليه جوبا فى خلافها مع الخرطوم هو فقط أن تقف نداً للخرطوم مدفوعة بتراكمات سياسية سابقة من زمن الحرب الأهلية الطويلة؛ فقد أستعصي عليها أن تنسي وأن تتواضع على حسابات الواقع الجديد وكونها باتت مسئولة عن بناء دولة بمواصفات جادة تتجاوز بها آثار الماضي. ويتفرَّع عن ذلك ان الخرطوم وأيّاً كانت المنظومة الحاكمة فيها ما عليها أن تقلق من مواقف جوبا مهما بدت مقلقة، ففي النهاية سيعود كل شيء الى ما هو عليه . الأمر الثالث ان جوبا الآن وضعت نفسها - عقب هذا الإتفاق - فى زاوية حرجة بشأن بقية الملفات، فباتت طرفاً مطلوباً بأكثر مما هى طرف طالب، فهي التى تدعم علناً الحركات الناشطة ضد الخرطوم وبات من المحتّم أن تكف عن ذلك مهما كان ذلك صعباً ومريراً عليها، فقد وضعت نفسها على المحك؛ لأنّ إتفاق النفط الذى هو إتفاق نهائي وتدعمه واشنطن إن لم تكن وقفت خلفه مشروط - بصورة أو بأخري - بالقضايا الأمنية وبقية القضايا الخلافية العالقة، وقد ضاق هامش المناورة هنا بجوبا فهي مجبرة على التخلّي عن العبث الأمني الذى تقوم به على حدود السودان كأهمّ ورقة كانت تحتفظ بها فى جيبها الخلفيّ، ولعل أسوأ ما فى موقف جوبا أنها وافقت ضمناً بمقتضي هذا الاتفاق بحلحلة كافة القضايا الأخري بعدما رضيت بأن تكون هذه الاتفاقية النفطية معلّقة على شرط إنهاء الأزمة بكاملها. وأخيراً فإن جوبا فقدت -وإلى الأبد- مهما تمنّعت وأبت أن تصدق إمكانية استصحاب حمولتها السياسية الزائدة المتمثلة فى قطاع الشمال أو جنوب كردفان أو النيل الأزرق، فقد أغلق ملف النفط وسُدَّ بإحكام الطريق أمامها فى هذا الصدد.