علقت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون على حادث قتل السفير الأميركي وبعض أعوانه في مدينة بنغازي الليبية بالقول :"لم أكن أتوقع أبداً أن يحدث هذا في المدينة التي حررناها من طغيان القذافي". واجهت الولاياتالمتحدة الموقف نفسه في العراق الذي "حررته" من الحكم "البعثي" وفي أفغانستان التي "خلصتها" من النظام "الطالباني" المتوحش ، وفي بلدان "الربيع العربي" التي وقفت إلى جانب ثوراتها الشعبية. بالأمس كانت أميركا تتهم بدعم الأنظمة الاستبدادية في المنطقة من أجل أغراض ومصالح نفعية لا تقيم شأناً لموازين الديمقراطية وحقوق الإنسان.وكما هو معروف، برز في السنوات الأخيرة اتجاه واسع في حقل الدراسات الإستراتيجية الأميركية يطالب بمراجعة هذه الرؤية، من منظورين متمايزين: منظور إيديولوجي ثوري يعتبر أن حماية أمن ومصالح الولاياتالمتحدة لا ينفصل عن نشر وتبني العقيدة النظرية والفكرية التي قام عليها النموذج الذي وضعه "الآباء المؤسسون" للأمة الأميركية الحديثة، تلك هي الأطروحة التي دافع عنها تيار "المحافظين الجدد" بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وأثرت بقوة في إدارة الرئيس الجمهوري "بوش الابن"، التي تقدمت بمبادرات متتالية لدفع الشرق الأوسط الكبير للديمقراطية وقيم الحداثة السياسية. ومنظور واقعي براجماتي يراعي حقائق وموازين الوضع المتأزم في جل بلدان المنطقة، حيث أصبحت الزعامات الحاكمة الحليفة لأميركا عاجزة عن تأمين الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي في مواجهة مجتمع مدني قلق وقوى سياسية وأيديولوجية صاعدة اكتسحت القاعدة الشعبية العريضة، وتوجب من ثم الانفتاح والرهان عليها قيادة للمستقبل، تلك هي أطروحة التيار الجديد في الحزب "الديمقراطي" الذي يمثله الرئيس الحالي "باراك أوباما". ومن هنا ندرك كيف تباين موقف الاتجاهين من حركات الإسلام السياسي النشطة في المنطقة. فالمحافظون الجدد الذين تحركهم خلفيات إيديولوجية ركزوا على هدف الإصلاح الديني الجذري، والعلمنة شرطاً للإصلاح السياسي، فأعطوا العناية الأساسية للقوى الليبرالية والتحديثية متفاجئين من النتائج الانتخابية الهزيلة التي حققتها في البلد، الذي راهنوا عليه نموذجاً لدمقرطة المنطقة (العراق). أما التيار الواقعي المقرب من الإدارة الديمقراطية الحالي، فقد اعتبر أن حركات الإسلام السياسي هي القوة السياسية الفاعلة الوحيدة في المنطقة، وأن أي انفتاح ديمقراطي فيها، لا بد أن يفضي إلى صعودها، وبالتالي التعامل معها كشريك لا غنى عنه. ويذهب العديد من ممثلي هذا الاتجاه إلى أن حركات الإسلام السياسي، وإنْ كانت في بداية أمرها متطرفة معادية للغرب، إلا أنها ستنتهي حتماً إلى الاعتدال والانفتاح عندما تصطدم بحقائق واكراهات الواقع ، شأنها شأن التشكيلات القومية العروبية التي تخوفت الولاياتالمتحدة من صعودها في الخمسينيات والستينيات قبل أن تتأقلم معها، بل وتتحالف معها في سياقات محددة. ومن آخر من عبر عن هذا الرأي الكاتب والمحلل الأميركي المشهور "فؤاد عجمي" في دراسة منشورة بمجلة "فورين أفيرز" (مارس - أبريل 2012) ذهب فيها إلى أن ظرفية مصر الاقتصادية وتركيبتها المجتمعية ووضعها الاستراتيجي والإقليمي أمور قد تكون في مصلحة التحول الديمقراطي، بما تفرضه على جماعة "الإخوان المسلمين" الفائزة في المعترك الانتخابي من تقاسم للسلطة مع المكونين الأساسيين الأخيرين في الحقل السياسي: المؤسسة العسكرية وقوى المجتمع المدني الحداثية والعلمانية. ولا شك أن تيارات الإسلام السياسي المستفيدة من الحراك العربي الأخير، أثبتت في أحيان كثيرة حساً براجماتياً جلياً في التعامل مع الأجندة الأميركية ، ظهر بصفة لا لبس فيها في تصريحات الرئيس المصري الجديد" بخصوص الملفات الإقليمية والدولية التي تلقتها إدارة أوباما بالقبول الحذر. إلا أن أحداث بنغازي الأخيرة التي واكبت حملة الشجب والامتعاض الواسعة في الشارع العربي والإسلامي ضد الفيلم المستفز والمسيء لمشاعر الأمة، المنتج في الولاياتالمتحدة قد أججت في دوائر الرأي والقرار الأميركية النقاش المحتدم حول مدى صواب الرهان على حركات الإسلام السياسي في تحقيق مطلب دفع التحول الديمقراطي في العالم العربي مع ضمان المصالح الحيوية الأميركية فيه. لقد بينت المستجدات الأخيرة حقائق كبرى فرضت نفسها على العلاقات بين الولاياتالمتحدة وتشكيلات الإسلام السياسي العربية. ومن أهم هذه الحقائق، أن التيار الإسلامي الذي فاز في كل الاستحقاقات الانتخابية المنظمة بعد انطلاق ديناميكية "الربيع العربي" (حتى في ليبيا كما أثبتت التركيبة الحكومية المنتخبة مؤخراً) ليس اتجاهاً فكرياً وإيديولوجياً متجانساً وموحداً يمكن بلورة إستراتيجية متناسقة ووحيدة للحوار والتحالف معه، بل إن الحقيقة الماثلة للعيان هي تفكك وتشتت المرجعية الإسلامية إلى اتجاهات متناوئة ومتصادمة لا تزال موازين القوة في ما بينها مصدر إشكال جوهري وتحد مستقبلي له أثره العيني على الأوضاع السياسية للمنطقة. ويفسر هذا التجاذب المواقف المتباعدة والمتعارضة لقيادات الأحزاب الإسلامية التي إن تبنت إجمالًا موقفاً براجماتياً في اعتماد المسالك الإجرائية في التنظيم الديمقراطي للوصول إلى السلطة مع ما يرتبط بهذه الإستراتيجية من مقتضيات تكيف مع المعطيات الدولية، إلا أنها لم تقدم بعد ردوداً حاسمة ولا نهائية على الأسئلة الجوهرية المطروحة عليها بشأن المقاربات المجتمعية والفكرية، التي تنجر عن منطق التحول الديمقراطي في أبعاده القيمية والمعيارية العميقة. وكما أن الولاياتالمتحدة أخفقت في السابق في رهانها على العلاقة بالتيار التنويري الحداثي العربي في إحداث التحول الديمقراطي في الوطن العربي، فإنها تخطئ اليوم في رهانها على "الإسلام المعتدل" في تحقيق الدور ذاته. فكما أنه لا يمكن النظر للاتجاه الإسلامي الصاعد على غرار الأحزاب المحافظة في الولاياتالمتحدة التي تستند للمرجعية الدينية في بعدها العمومي غير العقدي (الديانة المدنية المشتركة)، فإن تفاعلات وأثار الملفات والصراعات الإقليمية الحادة من شأنها تعميق البيئة العدائية لأميركا لدى تيارات شعبوية تمتاح قوتها الانتخابية من منطق التعبئة والتجييش العاطفي أكثر من الإنجازات التنموية الملموسة العصية في السياق المتردي الحالي. المصدر: الاتحاد 17/9/2012م