رحم الله الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الذي تحل ذكرى رحيله بعد أيام. عندما بدأ الانقلاب على سياساته في السبعينات من القرن الماضي كان من ضمن ما قيل إنه الرجل الذي أغرق مصر في الديون بسبب سياساته العربية (!!) لكن الأكاذيب لم تصمد، وجاءت الأرقام يومها لتقول إن كل ديون مصر المدينة لم تتجاوز ملياري دولار (كان الجنيه المصري وقتها يساوي دولارين ونصف دولار أميركي) رغم الحروب التي فرضت على مصر، ورغم أنه رحل وهو يبني جيش المليون مقاتل الذي كان يخوض حرب الاستنزاف ويستعد للعبور الذي تم في حرب أكتوبر، ورغم أن موارد مصر كانت شحيحة للغاية، لم يكن هناك بترول، وكانت السياحة مضروبة بظروف الحرب أو بالحصار الاقتصادي الذي فرضته أميركا، ولم تكن هناك تحويلات من المصريين في الخارج، ولم تكن هناك إلا موارد قناة السويس في السنوات التي لم تعطل فيها وكانت توجه لبناء السد العالي. لكن الأهم أن هذا القدر من الديون الخارجية لم يذهب للاستهلاك، ولا للبذخ ، ولا لكي تحصل عليه قلة من السماسرة، بل كان يذهب لبناء القلاع الصناعية ولوضع أسس نهضة حقيقية، ولتنفيذ مخطط للتنمية اعترفت الأممالمتحدة انه أفضل مخطط يمكن للدول النامية أن تحتذى به. الآن .. تقف مصر في مفترق طرق، وتواجه ضمن ما تواجه ظروفاً اقتصادية بالغة الدقة. "الاخوان المسلمون" قالوا إن لديهم مشروعاً للنهضة دخلوا به انتخابات الرئاسة، ثم جاء خيرت الشاطر رجل الجماعة القوي ليقول إنه ليس مشروعاً بل أفكار للنقاش !! نفس الارتباك حدث مع قرض صندوق النقد الدولي الذي رفضه الإخوان أيام حكومة الجنزروي وقالوا إنه من الناحية الدينية حرام، ومن الناحية الدنيوية كارثة اقتصادية . الآن .. تحول الحلال إلى حرام، وما كان"ربا" أيام الجنزروي أصبح مصاريف إدارية !! وما كان كارثة اقتصادية أصبح دليل عافية ودعماً مشكوراً !! شروط صندوق النقد معروفة واهمها إلغاء الدعم على السلع الأساسية، والتخلي عن القطاع العام، وتخفيض سعر الجنيه المصري، وهو ما يعني ارتفاعاً هائلاً في الأسعار وعبئاً إضافياً على فقراء تحملوا الكثير لسنوات طويلة، فهل يستطيعون تحمل المزيد؟! بدأت الحديث بتجربة عبد الناصر التي تعيش مصر على ثمارها حتى الآن . كانت الظروف شبه مستحيلة . كان على مصر أن تبدأ تقريباً من الصفر . مصادر التمويل غير موجودة . والكوادر الأساسية كان لابد من إعدادها . الحصار الاقتصادي من أميركا وحلفائها مستمراً . ومسؤوليات حركة التحرر العربي لابد من الوفاء بها . وتكاليف الحروب وصد العدوان باهظة . ومع ذلك كله كانت هناك تجربة ناجحة في التنمية وفي بناء قاعدة صناعية واقتصادية كان لها مكانتها في ذلك الوقت . ولم يكن شيء من ذلك ليتحقق إلا برؤية علمية وقيادة واعية وقرار مستقل، وقبل ذلك كله .. ثقة كاملة من المواطن في أن الغد أفضل له ولأبنائه. الآن .. الإمكانيات افضل بما لا يقارن، ولكن الخشية ان يتم إهدارها مرة أخرى، كما تم إهدارها قبل ثورة يناير . فليس من المعقول ان يتم اتباع نفس السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اورثت مصر الفقر والديون وتركت نصف المواطنين تحت خط الفقر ؟! وليس من المعقول ان تكون روشتة صندوق النقد هي الحل بعد ثورة رفعت شعار العدالة الاجتماعية ؟! وليس من المعقول ألا تكون هناك رؤية جديدة تبدأ باستعادة ما يمكن استعادة من الأموال المنهوبة، وتفرض سياسات جديدة توزع فيها الأعباء على الجميع حتى يتحمل القادرون نصيبهم من عبء التنمية، وتركز على حشد إمكانيات المصريين في الداخل والخارج لتكون الأساس في الانطلاق الاقتصادية المطلوبة، وتدير الحوار للوصول إلى توافق عام على الخطط المستقبلية ليكون الجميع شركاء في الجهد، وشركاء أيضاً في جني الثمار. في ظل غياب الرؤية، وافتقاد القيادة والطريق الصحيح، يصبح الاختيار، هو صندوق النقد وشروطه. وفي ظل السعي لدعم أميركي للسلطة الجديدة يصبح المطروح هو إعادة إنتاج النظام السابق، وفي ظل السعي الحثيث للاستحواذ على السلطة تتراجع كل الأهداف التي انطلقت من ميادين التحرير وتتراجع الآمال في خطوات جادة على طريق العدل الاجتماعي والكرامة الإنسانية، وينتظر ملايين الفقراء أياماً صعبة بينما الحكومة تطرح سلسلة من القوانين لمنع التظاهر وتجريم الإضراب واستعادة الطوارئ من الأبواب الجانبية .. كلها بالطبع ستصبح من «القوانين الحلال» كما حدث لقرض الصندوق !! المصدر: البيان 23/9/2012م