لم أكن في يوم من الأيام من مؤيدي انفصال جنوب السودان، وليس ذلك موقفا عاطفيا بل لأنني ظللت دائما أعتقد أن وحدة السودان جغرافية وليست سياسية، ومتى بدأ السودانيون في مختلف أقاليمهم يفكرون في هذه الوحدة من منظور سياسي فإنهم سيواجهون كثيرا من المشاكل، وهو ما يحدث في الوقت الحاضر، ذلك أن العالم الخارجي خدع حكومة السودان من أجل أن تجري استفتاء الجنوب الذي تحقق به استقلال ذلك الجزء من الوطن السوداني، ولكن المشكلة لم تنته عند ذلك الحد لأن الجنوبيين لم يكتفوا بما حصلوا عليه بل بدأوا يطالبون بمزيد من الأقاليم التي تدخل في الوقت الحاضر بين حدود دولة السودان، وتأتي هذه المطالبة بعد أن أدرك الجنوبيون أنهم يعيشون حالة اختناق بسبب عدم قدرتهم على النفاذ إلى العالم الخارجي في دولة حدودها مغلقة وغير منفتحة على أي منفذ خارجي. ولاشك أن القوى الخارجية أدركت حقيقة الموقف في السودان، وذلك ما جعل مجلس الأمن يهدد بفرض عقوبات على الجانين إذا لم يتوصلا إلى اتفاق، والسؤال هو لماذا مجلس الأمن هو الذي يرسل هذا التهديد، هل ذلك لأن مجلس الأمن يريد أن يخفي وجوه دول كبرى ومنها الولاياتالمتحدة من أجل تحقيق أهداف محددة، ذلك أن انفصال جنوب السودان إنما تم بجهود أمريكية وحتى بعد أن تحقق الانفصال لم تقدم الدول الواعدة المساعدات التي وعدت بها ما يدل على أن تقديم المساعدات لم يكن أمرا مطروحا وإنما كان مجرد تحفيز لإنهاء عملية الانفصال. ويلاحظ أن المسؤولين في دولة جنوب السودان يركزون في الوقت الحاضر على وجوب حدوث اتفاق بشأن مرور النفط إلى موانىء البحر الأحمر بشكل آمن، ولا شك أنه من غير الصحيح أن يعتقد هؤلاء المسؤولون إن كل ما يحتاجه مرور النفط هو مجرد اتفاق مع الشمال، ذلك أن هذا الاتفاق لن يتحقق إلا إذا حلت جميع المسائل العالقة، ذلك لأن النفط كان ذات يوم مصدر ثروة البلاد بأسرها وقد حرم لآن الشمال منه، فهل يتوقع الجنوبيون أن يوافق الشمال على تمرير النفط دون أن يكون له نصيب وافر فيه؟ المسألة أيضا لا تنتهي عند النفط وحده بكون الجنوبيين بدأوا يثيرون مشاكل حدودية لا يسهل التوصل فيها إلى اتفاق، والسؤال المهم هو لماذا تسرع الجانبان في تحقيق الانفصال قبل التوافق على حل سائر المشكلات بينهما؟ وأيضا إذا كان البلدان عضوين في منظمة الوحدة الأفريقية فلماذا لم تتحرك المنظمة من أجل إيجاد حلول للمشاكل العالقة بين شمال السودان وجنوبه؟ ومع ذلك لا ننكر الدور المتواضع الذي يقوم به الاتحاد الأفريقي من أجل حل مشكلة أبيي عن طريق الاستفتاء ليقرر دينكا نقوك ما إذا كانوا يريدون أن يكونوا جزءا من شمال السودان أم جزءا من دولة الجنوب، ويعتبر هذا موقفا منحازا لأن مشكلة أبيي لا تحل بالاستفتاء بل بمعرفة الواقع التاريخي لهذه المشكلة وما إذا كانت أبيي جزءا من جنوب السودان أم من شماله. وفي الوقت الذي تتظاهر الأممالمتحدة بأنها تريد من شمال السودان وجنوبه أن يسرعا في التوصل إلى اتفاق تقول منظمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إنها رصدت عملية اسقاط لأسلحة في جنوب السودان قامت بها طائرة تابعة لشمال السودان، ويتضمن الاسقاط مساعدات لبعض المتمردين على حكومة جنوب السودان، ولا يعرف أحد لماذا تحاول حكومة شمال السودان مواجهة حكومة الجنوب على هذا النحو، ما يؤكد أن الاتهام هدفه تقويض المباحثات الجارية بين الشمال والجنوب من أجل حل المشاكل العالقة بينهما. ومن جانب آخر يلاحظ أن قوى المعارضة ترفض بشكل قاطع المباحثات الجارية بين الشمال والجنوب وتقول إن الاتفاق يجب ألا يكون ثنائيا لأن هذه مسألة تهم الأمن الوطني بأسره، وقد عقد رئيس هيئة قوى الاجماع الوطني فاروق أبوعيسى مؤتمرا صحافيا انتقد فيه ثنائية القرارات بشأن منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وطالب بأن تشارك جميع القوى الوطنية في المباحثات حتى تكون الحلول قائمة على اجماع وطني، ومع ذلك قال فاروق أبوعيسى إن المعارضة السودانية تريد علاقات حسنة مع دولة جنوب السودان. وفي تطور مثير للدهشة قال الفريق رضا حافظ وزير الدولة السابق للإنتاج الحربي في مصر إن ما ذكره أحد المواقع الالكترونية الاستخبارية من أن مصر والسودان اتفقتا على إقامة قاعدة عسكرية حربية في السودان من أجل ضرب السدود الإثيوبية لا أساس له من الصحة .وقال إن هذا الخبر مدسوس من أجل تعكير صفو العلاقات المصرية الإثيوبية. وسواء كان الخبر صحيحا أم غير صحيح فلا شك أن هناك أيادي بدأت تتدخل من أجل خلق أزمة بين مصر ودول حوض النيل سواء كان ذلك في المناطق الاستوائية أم في إثيوبيا ولا يستبعد أن تكون هناك أياد إسرائيلية تريد أن تخلق مشكلات لمصر، وعلى الرغم من اتفاقية السلام التي وقعت بين مصر واسرائيل فلا شك أن اسرائيل لا تريد أن تكون مصر في المستقبل دولة قوية، ومصدر ضعف مصر هو مياه النيل، ولذلك لا يستبعد أن تحمي مصر مصالحها المستقبلية في هذه المياه بعقد اتفاقات ثنائية مع السودان وذلك هو سر الوحدة الطبيعية بين البلدين التي أدركها محمد علي باشا قبل ما يقارب القرنين. وإذا نظرنا إلى هذا الواقع كله أدركنا أن السودان بحاجة إلى توجه جديد من أجل مواجهة هذا الواقع الآخذ في الظهور، ولا يتم ذلك بإعلان السلطات السودانية أنها تريد من قوى المعارضة أن تشارك في وضع دستور جديد، وهي دعوى رفضتها قوى المعارضة على الفور لأنها تعتقد أن المشاركة في وضع هذا الدستور يعني موافقتها على النظام وهو ما ترفضه، ولا شك أن محاولة الحكومة السودانية وضع دستور جديد هو في حد ذاته مثير للاستغراب لأن نظام الحكم في السودان جاء قبل ثلاثة وعشرين عاما وأعلن أنه نظام إسلامي، وبالتالي فإن دستوره يجب أن يكون إسلاميا ولا يحتاج إلى المعارضة للمشاركة فيه ومهما يكن في الأمر فإن الدعوة إلى وضع دستور جديد لا تحل مشكلات السودان، فهناك دول كبرى مثل بريطانيا تعمل من غير دستور مكتوب بكون الأسس التي تقوم عليها الدولة أصبحت واضحة، لكن ذلك أمر لم يدركه الساسة السودانيون منذ فجر الاستقلال. ألا يكون ثنائيا لأن هذه مشكل. المصدر: القدس العربي 27/9/2012م