الخرطوم بدت واثقة وهي تعلن عودة (الخوة) مع جوبا بتوصلها لاتفاق أمني، يمنع كلاهما من العبث باستقرار الأخرى وأقدار الشعبين .. ومضات الفرح تلألأت في عيني الخرطوم وهي تؤكد أن قطاع الشمال في صيغته العسكرية إلى زوال، وهو ما صرح به وزير دفاعها عبد الرحيم محمد حسين، بالاتفاق علي فك الارتباط بين الفرقتين العاشرة والتاسعة التابعتين لجيش الجنوب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وقال (ثمة آليات فنية ستجتمع فوراً للقيام بالترتيبات الضرورية لإنفاذ فك الارتباط).. فرحة الخرطوم الرسمية بررها المتابعون للمشهد، بأن التوقيع جعلها الكاسب الأكبر من الاتفاق، باعتبار إن تعدد الجبهات المشتعلة أرق الخرطوم واستنزفها ردحاً من الزمن، بالتالي فإغلاق بوابة الفرقتين (10,9). أما رياح العمليات العسكرية، فيعني توفير الجهد وتركيزه في اتجاه البؤر الأصغر، ويعني طبقاً للمراقبين قطع طريق الإمداد عن أكبر فصائل الجبهة الثورية ممثلاً في قطاع الشمال المتحكم سياسياً في الفرقتين. ارتباك بدا واضحاً في الخرطوم، لما أعلنه وزير الدفاع حول وجود (آلية) لتنفيذ فك الارتباط، باعتباره نقطة مهمة في تاريخ مسار العلاقات السودانية الجنوبية، وأن اتفاق الترتيبات الأمنية كان هو المهم لأنه يسهم في توفير مناخ أمني والاستقرار بين الدولتين، لينطلق التساؤل حول السيناريو المتوقع في سياق دور الآلية المعلنة. د. إبراهيم دقش الخبير بالاتحاد الإفريقي وضع خطوطاً عامة لعمل الآلية في حديثه ل(الرأي العام) وقال (طابع آلية فك الارتباط عسكري بحكم إشرافها على فك ارتباط الجنوب بالفرقتين التاسعة والعاشرة، وتتضمن خبراء عسكريين من الجانبين السوداني والجنوبي) مستبعداً في الوقت ذاته أن يتأثر عملها بكونها مشتركة بانحيازات الطرف الجنوبي لحلفاء الأمس وأضاف (الأمر ليس متروكاً للآلية بل وفق قرار يوضح مهامها ومسئولياتها وصلاحياتها وتاريخ بداية عملها ونهايته) وزاد (كما أن الآلية رفيعة المستوي بالاتحاد الإفريقي ستكون متابعة بشكل لصيق لسير عمل آلية فك الارتباط، وستكون بمثابة حكم عند وجود أية نقاط تحتاج إلى تدخل). خبراء سياسيون وعسكريون اختلفوا في السيناريوهات المتوقعة حيال طبيعة الآلية ودورها والصعوبات التي تعترضها، لكن إجماعاً قاطعاً تبدي ل(الرأي العام) برفض عملية الدمج داخل القوات المسلحة السودانية، مستدعين في ذلك ما تم في أديس أبابا 1972م، أبان تذويب الانانيا في الجيش السوداني والانقلاب عليه بدخول الغابة تحت لافتة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان في 1983م، يري الخبير الأمني حسن بيومي في حديثه ل(الرأي العام) أن الوضع الأمثل هو تكوين آلية محايدة بغض النظر عن الجهة المشرفة عليها، وبرر لمطلبه بالقول (لأنها ستعمل دون عواطف أو انحيازات غير موضوعية، فالمجاملات يمكنها أن تعود بالمشكلات).. (المنطقي) بحسب رأي بيومي، أن تتم عملية فك الارتباط من الجهة الحاضنة والممولة، باعتبار أن الجنوب هو الذي يقدم الدعم السياسي والأمني والعسكري للفرقتين، أي أن جوبا هي المعنية بفك الارتباط عسكرياً والمستويات الأخرى بحيث يكون إنهاء لسيناريو طويل وممل.. ضمانات تنفيذ المتفق عليه بين الخرطوموجوبا في ملف الترتيبات الأمنية، فقرة فك الارتباط، وجدت حظها من الجدل، وخضع لاحتمالات عديدة بحسب ما قاله الكثيرون، خصوصاً في سياق توقعات برفض تيار واسع داخل الجنوب للخطوة، باعتبارها تعبر عن فقدان احد كروت الضغط على الخرطوم بعد فقدان كرت أبيي في المفاوضات الرئاسية الأخيرة، واعتبر د. ربيع عبد العاطي عضو القطاع السياسي بالمؤتمر الوطني ان عملية فك الارتباط ضرورة حتمية فرضها وجود منطقة عازلة أوتوماتيكياً، وقال ل(الرأي العام) (لا خيار إلا فك ارتباط حقيقي بسبب المنطقة العازلة لأن، أي اختراق سيبدو واضحاً، ويتحدد بناء عليه الطرف المعتدي). وأضاف (من ثم فان الآلية سيكون طابعها رقابياً في هذا المنحي، أي أن المنطقة العازلة المحددة ب 10 كلم شمالاً وجنوباً من خط الصفر، هي الضمان الحقيقي لعدم حدوث أي نكوص أو اختراق) بيد إن ربيع أشار للطبيعة التنفيذية في عمل الآلية، محدداً دورها التنفيذي في تسلمها من كل طرف المنتمين للطرف الآخر وتسليمهم بالتالي للجهات ذات الاختصاص.. رد فعل حلفاء قطاع الشمال في جوبا، بدأ مشتعلاً إزاء الاتفاق برمته، ناهيك عن الترتيبات الأمنية وفك الارتباط، عبرت عنه تصريحات قيادات الصف الأول بالحركة في جوبا طبقاً لتقارير إعلامية، وفي مقدمتهم أدوارد لينو واتيم قرنق، واعتبر كلاهما أن جوبا فقدت الكثير من أوراق الضغط في مواجهة الخرطوم، ما هيأ المراقبين لتوقيع وضع عقبات في تنفيذ فك الارتباط.. مواقف الصف الأول أثارت مخاوف الخرطوم من انطلاق عمليات عسكرية تعيد عجلة الأحداث للوراء على خلفية رفض رئيس قطاع الشمال الفريق مالك عقار عملية فك الارتباط بقوله في واشنطون (نحن الأصل والجنوب الفرع، بالتالي فلا فك ارتباط بيننا)، الأمر الذي استبعده القيادي بالمؤتمر الوطني عبد العاطي حال تم التعجيل بتنفيذ الترتيبات الأمنية، ويذهب الخبير في حركات دارفور والناشط آدم عوض الى أن ابتعاد قيادات قطاع الشمال عن الميدان، ربما يكون له تأثيره في التعبير عن رفض الخطوة عملياً عبر عمليات عسكرية، ويرجح تصاعد وتزايد عمليات حلفاء قطاع الشمال في الجبهة الثورية، في محاولة لتأكيد خطرها ووجودها بأكبر مما يحدثه قطاع الشمال بالفرقتين 10,9 ، وقال ل(الرأي العام) (يدفعها لذلك أيضاً إرسال رسالة للمجتمع الدولي والإقليمي بأن الاتفاق بين الخرطوموجوبا، لا يعني انتهاء الجبهة الثورية حالياً أو في أي وقت، وأضاف (إلى حين تفعيل الاتفاق سيسعي كل طرف لإثبات قدرته في التعامل مع الواقع، والجبهة الثورية تعمل على تصعيد الواقع على السودان وهو يسعي لالتزام الجنوب بالاتفاقات المبرومة بينهما). بينما يري مقربون من فصائل الحركات المسلحة أنها الأسرع انفعالاً بالاتفاق، بحكم التأثير الذي أحدثته الحركة الشعبية وتكنيكاتها العسكرية في سيناريو العمليات العسكرية للجبهة نفسها، من خلال انتقال خبرات الحركة الشعبية لبقية فصائل الجبهة بكشف ديناميكية حرب العصابات الحديثة واستراتيجياتها المتعددة. ويذهب آخرون أن الخرطوم تتوقع الأيام السوداء القادمة، وسينعكس ذلك على استعجال الوساطة لإجلاس قطاع الشمال في أديس أبابا، ما يضاعف حجم العزلة أو (قص) أطراف الجبهة في سياق احتمالات التوصل لاتفاق مع القطاع، ما يحفز الحركات المسلحة لتفعيل عملياتها في هذا التوقيت كمحاولة لخلق واقع جديد، خصوصاً وأن القضية الأمنية أو الملف الأمني هو الأساس بالنسبة للحكومة ويشكل أولوية، ما يجعل الأطراف الأخرى تحاول وضع عراقيل لإضعاف الحكومة من خلال التصعيد الحربي ولصالح إجبار النظام على الجلوس معها أيضاً.. محللون يستبعدون أن يعمل قطاع الشمال على إحراج جوبا من خلال اختراق المنطقة العازلة بعمليات عسكرية على الحدود السودانية واختلفوا حول إمكانية تهدئته العسكرية من عدمها، ويري أنصار مواصلته للعمل العسكري إلى أن القطاع ربما ينقل عملياته لمناطق أخرى داخل العمق السوداني بالفعل، ومن ثم مواصلة العمل ضمن فصائل خطة الجبهة الثورية، التي تعتبر خيار التفاوض مرفوضاً باعتباره خياراً تم تجربته من قبل، بالإضافة إلى أن التفاوض كعملية سياسية يحتاج لخبرات تغيب عن الجبهة بفعل ابتعاد التنظيمات السياسية عنها في الحد الأدنى علناً، تخوفاً من ردة الفعل الحكومي حال تم تقديم دعم سياسي أو ورش مشتركة مع القوى السياسية واتهامها بالتخوين في ظل حملة الخرطوم المستعرة .. الأمر الذي يجعل الحركات المسلحة تلجأ إلى خيار العمل العسكري المنظم لفرض واقع جديد يلفت إليها نظر المجتمع الدولي والإقليمي، لإجبار الخرطوم على التفاوض معها أيضاً.. الجبهة الثورية بحسب الخبير آدم عوض تحمل على عاتقها عبء إسقاط نظام الخرطوم عبر منهجين، أولهما هي التعبئة المدنية والطريقة الأخرى هي طريق العمل المسلح وإصدارها لبيانات تدعم هذا الخط، بالتالي فإن أية اتفاقات تتم بين الخرطوموجوبا من شأنه التأثير على الخطاب التعبوي للجبهة ويقلل بالتالي حجم الالتفاف العسكري. ثمة تحليلات اكتنفت الخرطوم في ظل حساباتها حول صدق جوبا في تنفيذ فك الارتباط، ويذهب المحلل السياسي والناشط الدارفوري ناصر بكداش إلى أن هناك احتمالين أولهما إعلان الفرقين التاسعة والعاشرة الذوبات في فصائل الجبهة الثورية بما في ذلك الحركات الدارفورية، باعتبار إن القضايا كلها مشتركة ومتصلة ومرتبطة، أو أن يتحالف القطاع مع التيار الرافض للاتفاق داخل القيادة الجنوبية مشكلاً تحالفاً جديداً ضد الحكومتين.. نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 30/9/2012م